انزياحات المسؤولية الاجتماعية للإعلام خلال الحملات الانتخابية

د. هشام كزوط*

على خلاف الطرح النظري، فإن الرؤية التحليلية والنقدية لواقع تعاطي الإعلام المغربي مع الحملات الانتخابية، التي تشهدها الساحة السياسية في المغرب تمهيدا لاقتراع يوم الثامن من سبتمبر 2021، عرفت انزياحا عن الممارسة المهنية الموضوعية، ولنا أن نقف عند جملة من الحقائق، من خلال تحليل واستقراء الرسائل الإعلامية، التي بثت خلال أغسطس الماضي، عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمتعلقة بانتخاب أعضاء الغرف المهنية.
وفق دراسة كمية خاصة بالشكل، تهم تحديدا نمط المادة الإعلامية وتردد ومدة البرامج، بالإضافة إلى نوعية المعالجة الفنية، ودراسة كيفية، تختص بطبيعة القضايا الرئيسية المتناولة خلال التغطية، والأهداف المرتقبة منها، وأساليب الإقناع، واتجاه المعالجة، بالإضافة إلى الجمهور المستهدف، وجدنا جملة من التجاوزات يمكن الإشارة مثلا، على مستوى الشكل، وتحديدا المعالجة الفنية، إلى غياب قوالب فنية للبرامج الإعلامية، وتعتيم ممنهج للمعطيات الحقيقية، كبرامج الحوارات والمقابلات وشكل التحقيق والتقرير الإخباري والتعليق الإخباري، أو البرامج الإخبارية الخاصة، والاكتفاء فقط ببرامج التعبير المباشر، أو الاستضافة في النشرات الأخبارية، وبرامج تغطية التجمعات الانتخابية، بشكل تقليدي ورتيب، مع تخصيص حيز زمني أقل للبرامج المتعلقة بالمداخلات الحزبية، على حساب بقية البرامج الأخرى.

أما على مستوى المضمون، فيلاحظ أن هناك تعتيما ممنهجا للمعطيات الحقيقية، ونمثل لذلك بغياب جسور التواصل بين ممثلي الأحزاب والمنابر الإعلامية، للوصول إلى المعلومة، خاصة في تحديد أسماء وكلاء اللائحة الانتخابية، ناهيك من معطيات أخرى أكثر أهمية، ما يجعل النقاش عقيما وسابقا لأوانه، بل يخلق نفورا وفتورا، كما نسجل غياب نقاش سياسي حقيقي في المضامين الإعلامية، إذ تفتقد إلى الجرأة والشفافية في الكشف عن الحقائق، وتوضيح الرؤية المستقبلية للحزب، فكأنك أمام أحزاب مستنسخة تروج لخطاب أيديولوجي واحد، وما يعزز الطرح السابق تغييب المثقف العضوي من أكاديميين وإعلاميين ذوي الاختصاص في هذا النقاش. بيد أن المسؤولية الاجتماعية للإعلام تتضح أكثر وتتعاظم خلال رصد تدخلات الأحزاب السياسية، أثناء فترات الحملات الانتخابية بنوع من النزاهة والحياد، والتقيد بالضوابط الأخلاقية والمهنية للإعلام، فالإعلام منصة للتغطية الموضوعية، وفق التعددية والتوازن، بعيدا عن إملاءات السلطة وإغراءات المال، فالإعلامي بمثابة المثقف العضوي، يجعل من الإعلام فضاء عموميا بالمفهوم الغرامشي، يسهم في النقاش السياسي العلني الحر، القادر على بناء الصرح الديمقراطي، لذا تأخذ العلاقة القائمة بين الإعلام والحقل السياسي في الأدبيات النظرية أبعادا عدة، جعلت من حضور الإعلام ضرورة تنموية وحتمية اتصالية من منظور مارشال ماكلوهان، بالنظر إلى الأدوار الطلائعية التي يلعبها، لاسيما في مجال الاتصال السياسي، خاصة مع الثورة التكنولوجية الحديثة، التي أسهمت في إعادة تشكيل خريطة العمل الاتصالي في المجتمعات المعاصرة، مفرزة مجتمعا افتراضيا موازيا، ومحدثة حراكا على مستوى الحياة المدنية في ارتباطها بالمجال السياسي، خاصة على المستوى القيمي والمعرفي والتواصلي.

تجاذبات الإعلام بالحقل السياسي إبان فترة الانتخابات

إن تجاذبات الإعلام في الحقل السياسي تتضح ملامحها بشكل خاص، إبان فترة الانتخابات، سواء تعلق الأمر بالدعاية للمشاركة السياسية، أم بتغطية سيرورة العملية الانتخابية، فالفاعل السياسي يدرك أن الرسالة الإعلامية إنما هي صناعة قائمة على نظريات التحليل النفسي والاجتماعي، ولعل أهمها نظريات وضع الأجندة، ودوامة الصمت، وكذا نظرية الحكم الاجتماعي وغيرها. من هذا المنطلق صارت الحملات الانتخابية مرتبطة اليوم بصناعة إعلامية رقمية احترافية؛ قادرة على بناء وتغيير الصورة الذهنية للحزب السياسي عبر مضامين لغوية وسيميولوجية مؤثرة في إدراك الناخب، من شأنها الدفع نحو المشاركة أو العزوف، فضلا عن ترشيح ودعم هيئة حزبية، دون أخرى بصدق أو بدونه. فالإعلامي وفق نظرية المسؤولية الاجتماعية، يجب أن يحتكم إلى الالتزام الأخلاقي والقانوني، فهو مطالب بالتحلي بالنزاهة والشفافية والدقة في التحليل، والتمييز بين الحقائق والإشاعات، وتصحيح المغالطات ضمن برامجه الحوارية ونشراته الإخبارية، فالإعلام منصة للتغطية الموضوعية للحملات الانتخابية، وفق التعددية والتوازن بعيدا عن إملاءات السلطة وإغراءات المال. ويعد الإعلام وفقا لمدارس الفكر الاجتماعي الحديث، أحد دعائم الديمقراطية بجميع أنواعها، ومظهرا من مظاهرها، يؤدي وظائف جسيمة عن طريـق تحفيز المشاركة السياسية والتفاعل السريع مع القضايا الجوهرية للمجتمع، من خلال المناقشـة الحرة المفتوحة، خاصة خلال الحملات الانتخابية، إذ يؤدي الإعلام وفق نظرية المسؤولية الاجتماعية، إلى صناعة رأي عام يعد بمثابة عقل جمعي في أوساط المواطنين، يمكنهم من فهم واستيعاب البرامج الانتخابية المعلنة ومناقشتها، من أجل تحديد ملامح المشهد السياسي المقبل للبلد.
الالتزام الأخلاقي يحقق التوازن بين حرية الإعلام والحفاظ على مصلحة المجتمع، فوسائل الإعلام متحررة من كل عناصر الإكراه، على الرغم من أنها ليست متحررة من كل الضغوط، كما أنها حرة في تحقيق الأهداف المنوطة بها، وفق التزام أخلاقي يحقق التوازن بين حرية الإعلام والحفاظ على مصلحة المجتمع واستقراره، ودعم كل جهد يصب في تنميته ورخائه.

ومع الثورة التكنولوجية المتسارعة، وظهور تقنيات رقمية جديدة فقد أعادت هذه الأخيرة بناء فضاء تواصلي جديد بين القائم على الاتصال والرأي العام، فضاء تسوده الفوضى الأخلاقية والتفاهة المعرفية، في ظل انزياح خطير عن الضوابط المهنية والممارسة الإعلامية الجادة، حيث التهافت حول السبق الصحافي تماهيا مع ثقافة البوز، والتلاعب في صياغة العناوين، للإيقاع بالمتلقي في شباك موقع الجريدة، والعمل على تمويه القارئ بمضامين تحمل في طياتها وجوها عدة من التأويل، دونما الوصول إلى الحقيقة بعينها، ناهيك من تتبع عورات المشاهير في أبسط حركاتهم وأتفه سكناتهم، في انتهاك صارخ للحياة الشخصية، والتجني على البسطاء من العوام بالتشهير، عبر كشف المستور وفضح السلوكات الشاذة، ما ينعكس سلبا على ثقافة المجتمع المحافظ، بالإضافة إلى تهوين بعض القضايا الجوهرية تارة، أو تهويل غيرها في مقامات أخرى، وفق سياسات تخدم الخط التحريري للوسيلة الإعلامية، وتستجيب للإملاءات الخارجية التي تكون وراءها الدوائر السياسية المتحكمة، والمؤسسات المالية الداعمة.

تجاهل مقصود للموضوعية والحياد خلال الحملات الانتخابية

تتعاظم هذه الانزياحات اللاأخلاقية للممارسة الإعلامية خلال الحملة الانتخابية باعتبارها فترة زمنية فارقة وحاسمة للتحكم في المشهد السياسي المقبل، وذلك بخدمة ناخب معين أو دعم مغرض لحزب سياسي دون الآخر، في خرق سافر لأدبيات المصداقية والشفافية، وتجاهل مقصود للموضوعية والحياد. فأمام تنامي هذه السلوكات الدخيلة على السلوك المهني الإعلامي، بات ضروريا إعادة النظر في أركان المسؤولية الاجتماعية للاتصال الجماهيري، بالاهتمام أكثر بتجديد الفلسفة الأخلاقية لمهنة الصحافة، وتحيين جزاءاتها التأديبية، بالاستفادة من الرؤى الفلسفية المعاصرة، والاجتهادات القضائية المصاحبة للتجاوزات التي أضحت تشهدها مهنة المتاعب، وذلك بتبيان دقيق للقواعد السلوكية والأخلاقية لصحافيي الإعلام، وتحديد مفصل لكل الالتزامات الأساسية التي يجب أن يتحلى بها كل صحافي وصحافية أو قائم بعملية الاتصال.
أستاذ باحث واعلامي من المغرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
× GIL24 sur WhatsApp