وزير العدل.. الإبن العاق لمهنة المحاماة والمخل بكل أدبيات الحوار والتواصل
صبري الحو (محامي وخبير في القانون الدولي)
لعبت مهنة الدفاع أدوارا حيوية وطنية ومجتمعية طلائعية على امتداد تاريخ المغرب المعاصر والراهن، حيث كانت حاضرة بقوة في مختلف المعارك “القومية” للمغرب دفاعا عن مصالح الوطن العليا بحس والتزام وطنيين عاليين. فكانت مواقف مختلف تنظيمات هيأة الدفاع، من نقابات وجمعية، على الدوام، تستحضر أولوية هذه المصالح القومية وتدافع عنها دون هوادة، بصرف النظر عن أية انزياحات ذاتية تنتصر بأنانية لمصالح الممارسين على أسس النفعية الضيقة والبراغماتية الخاصة.
لقد كان للمحامين بالمغرب شرف السبق في تصريف مواقف مشرفة وتاريخية حيال مختلف القضايا الدولية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي تحضر بأولوية مبدئية طيلة عقود من الصراع لصالح حقوق الشعب الفلسطيني، ضمن إيمان مهنة الدفاع بالخط الرسالي للمحاماة.
وإذا كان الإجماع ثابتا واقعا وقانونا، ومؤكد فقها وقضاءً أن مهنة الدفاع لعبت وتلعب دورا دقيقا داخل منظومة العدالة، لكونها جزء من أسرتها وشرط أساس ضمن أركان شروط المحاكمة العادلة وفقا للمتن الدستوري المغربي ومعه مختلف الصكوك الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان والحق في المحاكمة العادلة، فإن أي تجاوز، كما يحصل مع وزير العدل الحالي، لأهمية مهنة الدفاع لا يمكن ترتيبه إلا كتهور مكشوف ضد المهنة العصماء.
وأعتقد، من موقعي، أن أي تصور، أو سياسة، أو مخطط؛ لتحديث ميكانيزمات اشتغال العدالة مسطريا وعضويا يسترعي لزوما ووجوبا استحضار رأي وموقف المحاماة بعيدا عن سعي أحادي حثيث، والذي يبدو أن توجها ما يعمل على توطيده وترسيخه بالإتجاه نحو تبخيس المحاماة ونزع أدوارها العرضانية ونسف ماهيتها الرّسالية لصالح تصور سطحي مجثت عن قواعد اللباقة حيال هذه المهنة الممانعة على امتداد تاريخها الناصع بالملامح.
ويبدو جليا أن السعي ثابت وماضٍ، في إطار خطة انفعالية تخبطية ظرفية أحيانا، وبنيوية ممنهجة أحيانا أخرى، في الهدف والغاية، إلى جعل مهنة الدفاع مجرد مهنة تقنية مجردةٍ من مضامين مجتمعية حضارية ورسالية كما كانت تاريخيا. وقد لا يكون الأمر حِكرا على نموذج واحد فقط، بل في كل البنيات التي تخشى النخب المتنورة والمثقف العضوي الملتزم بدرجة عليا من اليقظة الفكرية، لِذا تولد معارك تحارب وتنفّر منه وتكبّله لصالح تشجيع ودعم نظام التفاهة الذي أصبح مهيمنا ومسيطرا على كل المجالات والقطاعات والمهن، مما أبرز بدقة عالية الفيلسوف الكندي ٱلان دونو في متنه العميق “نظام التفاهة”. ومن أجل مطارحة مسؤولة لما يستهدف المهنة من مخططات، حري التصريح أن السنوات الأخيرة شهدت ما يمكن اعتباره، بكل موضوعية نقدية، ردّة خطيرة على مستوى توطيد مخطط محبوك يستهدف مكتسبات أصحاب البذلة السوداء على جميع الأصعدة. وانفضاح محاولات توريطهم فيما أسميه ب “انشغالات ظرفية جامحة من لدن الفاعل التنفيذي (الحكومة)”؛ وهو ما يروم تكريس سيلان تمثلات سلبية من لدن المجتمع عن نبل مهنة الدفاع لدى الرأي العام عبر نشر توصيفات سلبية وتسويق بروباغاندا غير مناسبة لحجم التضحيات التي قدمها المحامي لصالح الوطن في كل اللحظات العصيبة، وهي أدلة كافية لفهم حجم الاستهداف الحاصل من لدن من تنكر لمهنة أنصفته ويحاول إذلالها، وكفى المعيش بدسائسه شهيدا.
ومن وجهة نظر تدقيقية، وانطلاقا من البلاغ الأخير لجمعية المحامين بالمغرب، قمينُُ وكافٍ الإنطلاقَ من عبارة واردة فيه تفيد عدم ردّ الحكومة في شخص حامل حقيبة العدل على اتصالات رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب – اطار نيابي تاريخي جماعي جامع ومخاطب موحد -، لبناء استنتاج مفاده أن السعي الحثيث ما يزال مستمرا قصد استصغار مؤسسات وهياكل مهنية لا يليق بها إلا الوقار من لدن وزير العدل، هذا الإبن العاق لأنبل مهمة لا ريب. وهذا الإبن العاق لمهنة نبيلة منحته كل شيء ولم يمنحها أي شيء، قياسا على حجم الانتظارات على وزير تكلف بالعدل وهو سليل المهنة، خبر أسراراها وجراحاتها، قبل أن يتحول، بقدرة قادر، من “المهدي المنتظر” في معرض انتظار معقودٍ لإنصاف المحامي، إلى نقيض هذا القصد حيث لم يعد الرد حتى على اتصالات نجباء المهنة؛ وهو لعمري سلوك أرعن مخل بكل أدبيات الحوار والتواصل!! ما بالك في إبداع تصورات منصفة لمهنة شامخة رغم عبث الإنحرافات الواردة ضمن “مورد النزاع” قوامه لعبة التبخيس وشد الحبل قصد بناء مزاج مغربي جمعي سلبي حيال مهنة المحاماة.
لا مندوحة إذن أن محاولة وضع فرضيات معرفية لفهم كل نسقيات الشرط الموضوعي في استيعاب مآلات مهنة المحاماة، من خلال تعقب سياسة الإستخفاف والتبخيس المعتمدة من لدن حامل حقيبة العدل، يجب أن لا يمنع عنا، نحن أبناء وبنات المهنة، نصاعة النظر بعيون الجرأة والحياد إلى خصوصيات الشرط الذاتي، من خلال تعقب الانزلاقات الحاصلة. بمعنى آخر حري بنا جميعا أن نتساءل، ونحن في معرض محاولة الفهم، رغم أن القاعدة الشعبية تقول “شرح الواضحات من المفضحات”؛ لعلنا نبلغ مجمع البحرين، هذا عذب فرات أساسه طموح الممارسين ونبل أهدافهم، وذاك ملح أجاج قوامه هوس الخوف والسعي المستمر إلى استصغار المهنة وتخريب جاهها.
– هل فعلا كانت هياكلنا التنظيمية في درجة مناسبة من اليقظة المهنية لإيقاف كل أشكال التربص بالمكتسبات؟! هل يا ترى ثم اتخاذ مواقف مناسبة في لحظات مناسبة لما يطال المهنة من تراجعات بعلة إصرار الفاعل التنفيذي- الحكومي على شرعنة ممارسة لعبة التبخيس الممنهج إزاء مهنة عصماء، وأمام أعين بناتها وأبنائها؟!.
– كيف يجوز لنا أن نطبّع، من حيث ندري أو لا ندري، مع مختلف الانزياحات الكبرى التي تنشد نزع ما بقي من مكتسباتنا على ندرتها، رغم أن عددا لا يستهان به من زملائنا وزميلاتنا، سيما بالمدن الكبرى، يعيشون ظروفا صعبة، تستحق بكل وفاء أخلاقي – مهني، التفكير الجماعي الرصين من أجل ابتداع مقترحات عملية ضمن ما أسميه ب “الإنصاف المهني – الأفقي”، ما دامت الوزارة لا تفكر إلا سلبا في اتجاه تخريب كل ما ثم جنيه من مكتسبات، على قلتها، بعد عقود من النضال المهني المتحضر، قبل أن يحلّ علينا الخراب من “براقش التي جنت على أهلها”؟! وأكيد أنكم على علم بهذا المثل العربي الدقيق.
– أليس الوقت تكتيكيا في غاية التناسبية قصد امتلاك ما يكفي من الوجاهة الأخلاقية ومن الجرأة المهنية الرصينة قصد ممارسة عتاب أخوي ونقد ذاتي جريء ينتهي إلى امتلاك ناصية الإعتراف، أن الشرط الذاتي لعب دورا كبيرا في تكريس نظرة ازدراء نحو هذه المهنة التي منحت وتمنح لنا الأقصى ونمنح لها الأدنى جحودا لا عرفانا ؟! بمعنى هل كانت ردود الفعل، صدقا، مناسِبة لحجم ما يستهدفنا من تراجعات، والأنكى آت لا محالة، ونحن معكم من المنتظرين، ونحن هنا كضمير منفصل للجمع يدل على تنظيمنا “كهياكل نقابية وجمعية” تنتصر إلى “الحكمة” في سياق ارتفعت فيه صيحات الممارسين الذين عبروا عن قلقهم الكبير ولا أذن صغت، فجاء الرد بصيغ تساؤلات، هل تتوافر فعلا على راهنية مبدأ التناسب بين الفعل ورد الفعل، ومبدأ التوازي في شكليات الاستهداف منهم والصمود منا؟!.
– أليس من المطلوب داخل دائرة الحذر الإبستيولوجي – المهني التساؤل لماذا جاء رد فعل الجمعية ببلاغ رسمي حاليا!! وليس من قبل، وليس فيما بعد؛ علما أن السياق يحدد المعنى كما أكد أرسطو ومعه جمهور المناطقة بعده!! والقصد هنا أليس من المباح عرض السؤال حول دواعي اختيار هذا الزمن البسيكولوجي أولا والفيزيقي ثانيا في إصدار بلاغ !! سيما أن اختيار وقت مناسب للرد يعتبر من الأسس الصلبة لكل معركة نضالية يعلنها جندي محترف ضد إساءات تأتي من خصم أو من عدو مفترض؟! .
شخصيا لست من هواة محاكمة النوايا، والله يتولى السرائر ونحن فقط نتولى الظهائر، لكن أعرض، عليكن وعليكم، زخم التساؤلات الواردة أعلاه، من باب جدلية الفهم بالحيثيات؛ وأجدني من باب المبدأ أضم صوتي إلى صوت الغيرة ، لصالح مهنة تضمن لنا ” سْتْر الله ” في سياق يروم فيه صاحب حقيبة العدل تناول كل قضايانا بمنطق كارنافالي ينشد تسويق عنجهيات البطولة المزجاة لصالحه على شظايا حقوقنا ومكتسباتنا قصد بلوغ نزع “ستر الله”، علما أن السواد الأعظم منا يعيش بالكفاف والعفاف والغنى عن الناس.
وحيث إن التاريخ محكمة للشعوب والأفراد؛ فإنني أهمس في أذن القيادمة والرؤساء، ومعهم كل الغيورين، بكل تقدير واحترام كاملين، قائلا: نكون أو لا نكون، هذه معركتنا الجماعية، لا فرق بين الهياكل والأشخاص، هي للتاريخ وللمهنة وللأجيال المقبلة، حرصا أولا على صون ذاكرة سلفنا الخالدين في ذاكرة التاريخ بشرف وعزّة، وثانيا تفاديا للخُذلان حتى لا يحاكمنا التاريخ مستقبلا أمام بعضنا البعض، حيث لا يفرق الذي سيأتي بعدنا بين الذي أخطأ والذي أصاب، بما لا يستقر له وقار ولا احترام؛ والعاقبة للمتقين.