هشام زهدالي : هل كان بعيوي والناصيري يراهنان على تأسيس نموذج كولومبيا لكارتيل سياسي بالمخدرات ؟ -الحلقة الثانية-

حينما تحشر الأموال أنفها "القذر" في السياسة، تحولها إلى فن غير أنيق.

.

منذ العهود الغابرة سجل الارتباط الوثيق بين المال والسياسة، ليلتصق كل واحد منهما بالآخر منذ تشكل أول المجموعات البشرية المستقرة.

فقد تطرق لهذه العلاقة علماء الاجتماع، ومن بينهم ابن خلدون حينما تحدث عن الدولة الحفصية، وقال إنه لا يمكن قبول وجود الجاه والسلطة بدون المال، وبالتالي فالتزاوج بينهما هو إلى حد ما أمر طبيعي، كون الرأسمالية مرتبطة بالمال أكثر من ارتباطها بالسلطة، باعتبار أن الرأسمالية هي المحددة لكل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ولكن بعد بروز التوجه النيوليبرالي تم القطع مع التمويل المباشر للسياسي، حيث صار المقاول يتمكن من الولوج إلى السلطة مباشرة، بل صار هو الذي يحكم يقود ويحكم مكان الرجل السياسي، أي مكان المناضل داخل الأحزاب السياسية.

بل لقد استطاع الرجل المقاول السيطرة على الأحزاب السياسية وأضحى يتحكم في اللعبة السياسية ويقود الحكومة، وهذا معروف في عدد من التجارب، فظاهرة زواج المال بالسلطة، إذن، مرتبطة بالمنطق النيوليبرالي. وقد تسببت هذه الظاهرة في إفساد الديمقراطية وفي إفساد الحياة السياسية، مما أدى الى نفور المواطنين من السياسة.

ففي كل البنيات المجتمعية وعبر التاريخ كانت السلطة في حاجة ماسة إلى المال كي تستمر وتفرض كينونتها، وتوسع فضاء امتدادها، كما أن المال كان دائما في حاجة إلى آليات سلطوية تصونه، فحتى من داخل الديمقراطيات الرائدة، والمشهود لها بالشفافية كالنرويج مثلا، حيث لا أحد يعارض زواج السياسة بالمال، ما دام هذا الزواج مولدا للرفاهية والعيش الكريم ويضمن ريادة البلاد في العديد من المجالات، فهي نموذج في الحكامة والديمقراطية على غرار جيرانها من الدول الإسكندنافية.

ففي بلاد النرويج حيث يتمتع المواطنون بحرية الوصول إلى الوثائق الإدارية بمقتضى قانون 1970، سمح للمواطنين بالوقوف عند الأسباب التي جعلت حكومتهم تضخ 43 مليار أورو من المال العام في حسابات الأبناك الخاصة، لإنقاذها من شبح الإفلاس على خلفية الأزمة المالية لسنة 2008، ومن ضمن تلك الأسباب نجد علاقة الصداقة الوطيدة بين وزيرهم الأول ورئيس أكبر البنوك النرويجية.

فقد اتيحت الفرصة للنرويجيون بالاطلاع على رسالة من رئيس أكبر البنوك النرويجية (DnB Nor)، السيد رون بجيرك (Rune Bjerke)، موجهة إلى وزيرهم الأول جونس سطولنبرغ (Jens Stoltenberg)، يطلب منه الإسراع بإنقاذ البنوك الخاصة.

هكذا أنقذت الحكومة النرويجية بنك صديق الوزير الأول، وساد الجدل بشأن سلامة قرار الحكومة من الناحية القانونية والأخلاقية، وخلص كل ذلك الجدل الكبير إلى تمكين الوزير الأول من ولاية انتخابية أخرى ولم يغادر الوزارة الأولى إلا سنة 2013.

في النرويج، المواطنون لا تستهويهم إضاعة الوقت في نقاشات سوريالية من قبيل زواج السياسة والمال، كل ما يهمهم هناك هو التقيد بالقانون وربط المسؤولية بالمحاسبة ونجاعة التدبير العمومي لتحقيق الرفاه العام.

نموذج آخر للوصال بين السياسة والمال يرتبط بالحزب الشيوعي الصيني الذي خلق رجال أعمال كبار من أعضاء الحزب ومكنهم من كل الإمكانيات من أجل تحقيق الأهداف الإستراتيجية الكبرى للصين، من خلال اكتساح الأسواق وجذب الإستثمارات الخارجية، والمساهمة في إنجاح مشروع طريق الحرير (La route de la soie).

فالدور الكبير لرجال الأعمال داخل الحزب الشيوعي الصيني، ليس سرا من أسرار الدولة، بل أخبارا تسوقها جريدة الشعب لسان حال النظام الصيني، كما هو الحال سنة 2018 حينما أعلنت بالبنط العريض عن التحاق جاك ما (Jack Ma) بالحزب، وهو للتذكير أحد أغنى رجالات الأعمال في الصين وأكثرهم تأثيرا.

مناسبة جرد هاذين النموذجين الصارخين للعلاقة الحميمية بين المال والسياسة، يأتي على خلفية تورط أسماء وازنة سياسيا واقتصاديا في قضايا مرتبطة تحصيل المال بطرق مشبوهة، و تمارس السياسية بخلفيات الرساميل والثرواث الكبيرة، المثير مصدرها للكثير من الجدل، والتي أعادت الحديث عن هذه العلاقة التي تغدو مشبوهة أحيانا وغير موثقة بعقد شرعي.

فمند بداية عملية التأسيس التدريجي لأركان النظام الديمقراطي في أوروبا وتبعا لمبدأ صيانة المؤسسات ذات السيادة أولا من أورام الفساد سيتم إفشال قانونيا وتشريعيا خطة اعتماد المال كامتياز، وقنطرة تسهل الولوج إلى تلك المناصب المتمنعة ووسيلة ضامنة للتسلق السلطوي، وبالتالي الاستحواذ عن طريقها على أجهزة الدولة والتحكم في دواليبها.

الأكيد أن دسترة الدولة ديموقراطيا وتقنين علاقاتها بالأفراد الذين يخضعون طوعا لسلطة الواجب وتحمل المسؤولية يؤدي الى جعل المواطنة والتصويت والانتخاب حقوقا مرتبطة بعدالة مؤسساتها كأساس وحيد وآلية نزيهة للوصول إلى كراسيها، وبالتالي لا يمكن للنسب والألقاب ولا العرق ولا الدين ولا الرساميل أن تبرر التمييز بين أفراد المجتمع.

من بين أعطاب المجتمعات السائرة ببطيء على سكة ما يسمى مرحلة الانتقال الديمقراطي، هو أن هذه المبادئ الكونية المجمع عليها في المنتديات السياسية الدولية لاتمنح لها الأولية ولا يتم تحيينها، ليتم التعاطي معها بمنطق التماطل والمرواحة الافتراضية على الورق أو تترك في وضع مقتضيات معلقة لتغدو قناعات صنمية محنطة.

الجدير بالذكر أن ورش الانتقال الديمقراطي إذن الذي حسب نظرة كثير من المراقبين الدوليين لم يخرج بلدنا بعد من متاهاته السياسية الرمادية غير الشفافة مند أن أمسى عالقا في شباك مطباته العصية على الحل هو الذي سيحيلنا على مسألة راهنة ما زالت تداعياتها تثير أسئلة حارقة وتستدعي مقاربات متعددة ألا وهي زواج المال بالسياسة.

بداية لقد كانت دوما الأموال تحشر أنفها “القذر” في السياسة إما باقتحام كبريائي، ضمن النظام التقليدي الذي حضنها في حظائر الريع ونمَاها رويدا رويدا حتى تقوت سلطويا وأصبحت إمبراطورية قائمة الذات ولها قوانينها الخاصة. ولهذا لم يكن من الممكن أبدا أن يتم تجاهل رأسمال العائلات الثرية و المحمية عموديا والمتحالفة أفقيا، ليفسح لها المجال للولوج الى دهاليز السياسة وهذا حتى لو غيرت هذه الدهاليز طلاءات جدرانها المتهالكة.

لقد سعت الكثير من النخب والخبراء المحللين، باليات الدعاية الى تشكيل صورة أخرى عن علاقة السياسة بالمال، إما بوصف هذه العلاقات على اساس أنها عرفت طريقا شاقا حتى بلغت محطة الاستحقاق المتبادل وأنها فعلا حصيلة مشرفة لقصة نجاح وتوأمة لهاذين النقيضين، دون الاستفهام عن مصدر تضخم ثروتهما.

ولا يمكن المرور دون طرح أسئلة حول الامتيازات الاستثنائية التي حصداها خلال كل هذه المدة.الذي يحدث هو أن قوة المال الخاص وسلطة تدبير السياسة حتى في الدول الديموقراطية المتقدمة يتداخلان ويتقاطعان عند نقط معينة لأن كليهما يميل بطريقة حضوره المتغلغل داخل الحاضرة إلى التنافس والتسابق على رسم العلاقات الاجتماعية واحتوائها وشبكها بما يخدم مصلحته وغاياته الرئيسية.

فالدولة طبعا تقوم بهذا عن طريق الاضطلاع بالمزيد من المهام والخدمات المقدمة للفرد وللمجتمع مع استدخال النواة الأسرية وامتدادتها المؤسساتية الاجتماعية التعليم الصحة تقنين أوقات العطل إلخ في مرمى مقاصدها.

في حين يجدر التسجيل أن الرأسمال المستقل يفرض سلطته داخل الأسواق الاقتصادية من خلال تداول الأموال وضخ الرساميل عن طريق استثمارها في عدة أنشطة تجارية، بحيث يجعل ديناميته تدور حول مراكز ودوائر الأعمال ومشاريع الربح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى