نانسي… الأم التي تركت قلبها في الجنوب

من غزة: سوزان سليمان أبودقه لجريدة "جيل" المفرب

على طريقٍ مغطى بالغبار والخوف، كانت نانسي تمشي بخطواتٍ متثاقلة، تحتضن بطنها المنتفخ بالحياة.
شهرٌ واحد فقط كان يفصلها عن موعد الولادة، لكن الحرب لا تعترف بالمواعيد. القصف يلاحقها من حيٍّ إلى آخر، من بيتٍ إلى ركام، حتى وجدت نفسها في رحلة نزوحٍ نحو الجنوب، تائهة بين الأمل والألم.

كانت تحلم أن تلد في سريرٍ أبيض، في غرفةٍ تشبه الأمان، لكن القدر سبقها.
عند تلة النويري، باغتتها آلام المخاض.
لا سقف، لا طبيب، لا شيء سوى التراب الذي التحفت به لتستر خوفها وصرختها الأولى.

في العراء، تحت سماءٍ ترتجف من الدخان، أنجبت نانسي توأمها: ولدًا وبنتًا.
بكيا معًا، كأنهما يعلنان للحياة أنهما وُجدا رغم الحرب.
ثم نُقلت الأم إلى مستشفى العودة، ومنها إلى مستشفى الأقصى، والطفلان إلى العناية المركزة، يواجهان معركة التنفس بأجهزةٍ باردة.

في اليوم التالي، عادت نانسي تحمل في صدرها رجفة الأمل.
لكن الأمل هناك، كان قد خمد.
أخبروها أن ابنها لم يصمد.
غسلته بيديها الصغيرتين، صلّت عليه، ودفنه والده بصمتٍ أثقل من الحجارة.

بقيت البنت تتشبّث بالحياة، كغصنٍ أخضر وسط العاصفة.
نانسي تزورها كل يوم، تهمس في أذنها: “اصمدي يا روحي، لا تتركيني.”
لكن بعد يومين، أتاها الخبر من جديد:
“بنتك كمان راحت.”

تقول نانسي وهي تحدّق في البعيد:
“كانت باردة… ساكنة… كأنها نائمة بسلام.
غسلتها ودفنتها وحدي، ما كانش حدا معي.”

ثم تصمت قليلًا، قبل أن تهمس بصوتٍ مكسور:
“ما بقدر أرجع على غزة، هما هون… مدفونين بالجنوب، وقلبي مدفون معاهم.
نزحنا خمسة… واليوم راجعين ثلاثة.
حتى لو ضلّيت على هاد التل طول عمري، ما بتركهم.”

انتهت الحرب من حولها، لكن داخل نانسي، لا تزال الحرب مستعرة.
هناك في صدرها معركة لا تهدأ، بين ذاكرةٍ لا تموت، وأمومةٍ لم تكتمل.
لقد فقدت طفليها في المكان ذاته الذي ولدا فيه… المكان ذاته الذي غادراه إلى الأبد.

الصورة : نانسي أم التوأم، عدسة فادي ثابت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!