الخلفي: الحزب يواجه ثلاثية “السلطوية والتغول الليبرالي والتفسخ القيمي” ويرهن المستقبل بتثبيت الديمقراطية والتنمية والقيم.

شارك السيد مصطفى الخلفي، عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ووزير سابق، في ندوة “حزب العدالة والتنميه وسؤال المستقبل”، حيث قدم تحليلاً معمقاً لهوية الحزب ورصيده النضالي في المرحلة الحالية، محدداً أبرز التحديات البنيوية التي تواجه العمل السياسي، ومقدماً رؤية واضحة للتعامل مع المستقبل.
المحور الأول: تحديد نقطة الانطلاق ومسار الحزب
أكد السيد الخلفي أن سؤال المستقبل ليس “رجماً بالغيب”، بل هو مرهون باستيعاب مؤشرات واتجاهات حركة التاريخ وحركية الأحزاب، وأن القرارات الحالية يمكن أن تعزز بعض الاتجاهات على حساب أخرى. وناقش الخلفي نقطة الانطلاق التي يجب البناء عليها، وهي لا تقتصر على نتائج انتخابات 2021 رغم تداعياتها التي أدت إلى مشروع “إعادة البناء” المستمر، بل تمتد إلى المؤتمر الوطني التاسع الأخير.
• المؤتمر الوطني التاسع (نقطة انطلاق): صادق المؤتمر على الوثيقة المذهبية (بعد حوالي 20 سنة من المراجعة) والأطروحة السياسية (بعد حوالي 13 سنة، حيث كانت آخر أطروحة في 2012). وتضمنت هاتان الوثيقتان عناصر لتموقع سياسي جديد للحزب.
• المسار العام للحزب (1993 – 2025): أشار الخلفي إلى مسيرة الحزب منذ الولادة الثانية في 1992-1993، وصولاً إلى المؤتمر الرابع عام 1999، ثم التموقع كطرف قيادي بعد انتخابات 2002 و 2007، وتحمل المسؤولية الحكومية في 2011 و 2016، والعودة للمعارضة في 2021.
• سؤال “بماذا سيذكرنا التاريخ”: هذا السؤال هو الذي يحدد الميزة التنافسية للحزب، وهو الجواب أيضاً على تساؤل الشباب حول “لماذا أنتمي للحزب”.
المحور الثاني: الهوية الحزبية والمزايا التنافسية الست
قدم الخلفي ست نقاط كبرى تبلورت كمواقف واختيارات وممارسات، تشكل هوية الحزب والمحددات الأساسية لمستقبله.
العناصر الستة التي سيتذكر بها التاريخ الحزب:
1. قضية المرجعية الإسلامية: رفع لواء المرجعية الإسلامية في الحقل السياسي، وقد انعكس ذلك على سلوكه (مثلاً: الموقف من خطة إدماج المرأة، قضايا الأبناك التشاركية، السياسة التعليمية، ومدونة الأسرة الحالية).
2. حزب نظافة اليد وخدمة الناس: بُعد أساسي ميز عمل الحزب.
3. حزب الدفاع عن الاستقرار والمؤسسات: اتخاذ موقف المسانَدة النقدية لحكومة التناوب التوافقي (اليوسفي) رغم الخلافات الأيديولوجية لتعزيز الاستقرار. كما برز موقفه المميز أثناء حراك 20 فبراير: “نعم للإصلاح ولكن في إطار الاستقرار”. هذا التميز جعل الحزب يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، حتى لو كان الثمن هو المصالح المباشرة للحزب.
4. حزب الإصلاحات الكبرى: تحمل مسؤولية إصلاحات صعبة ومكلفة:
◦ إنقاذ صناديق التقاعد (منع تهديد معاشات 400 ألف أسرة في 2022).
◦ إنقاذ قطاع الكهرباء (كان المغرب مهدداً بتوقف الخدمة في 2014).
◦ إنقاذ المالية العمومية (لتفادي كارثة شبيهة باليونان أو الإجراءات السلبية لثمانينات القرن الماضي، حيث وصل العجز إلى 7%) [24، 25].
5. إعادة الاعتبار للمواطن كأولوية: طرح فكرة الدعم الاجتماعي المباشر والبدء في تطبيقها بنموذج دعم الأرامل، وهو عنوان ارتبط باسم الحزب.
6. حزب المراجعات والنقد الذاتي والديمقراطية الداخلية: لا يجد الحزب حرجاً في الاعتراف بأخطائه. وقد تضمنت الأطروحة السياسية الحالية نقداً ذاتياً.
المراجعات والنقد الذاتي (أخطاء التجربة الحكومية): أقر الخلفي بأخطاء ارتكبت، منها [26، 27]:
• التراجع الذي حدث للغة العربية كلغة تدريس وحيدة في التعليم ما قبل الجامعي، ووعد الحزب بمراجعة وتصحيح هذا الخطأ.
• قضية تقنين زراعة القنب الهندي، التي مرت في مرحلة ترؤس الحزب للحكومة، رغم تصويت فريقه البرلماني ضدها.
• قضية التطبيع، حيث اعتبر الحزب أن مروره في مرحلته كان قضية صعبة، وقدم نقداً ذاتياً واعتبره خطأ، ودعا إلى إنهائه، رغم تفهم موقف الدولة.
• عدم اتخاذ موقف سياسي حازم إزاء التراجع الديمقراطي الكبير المتمثل في القاسم الانتخابي، مؤكداً ضرورة التراجع عنه.
• كان ينبغي أن يقترن تسقيف أسعار المحروقات مع تحريرها.
المحور الثالث: الرصيد الذي تشكل في السنوات الأربع الأخيرة
أشار الخلفي إلى أن الحزب لم يكتفِ بهويته التاريخية، بل شكل رصيداً جديداً خلال السنوات الأربع الماضية ناتجاً عن أربع سيرورات حيوية :
1. سيرورة نقاش فكري: تجديد فكري بطيء (وليس قطيعة) من خلال مراجعة الوثيقة المذهبية، والتركيز على الهوية السياسية والدينية، والموقف من الدولة، وقضايا المجتمع والأسرة.
2. سيرورة التدافع السياسي: أدى النقد والمراقبة والتقييم التي قام بها الحزب (برغم 13 نائباً فقط) إلى جعله قائد المعارضة، والمؤثر الرئيسي في النقاش الوطني حول قضايا مثل تضارب المصالح، والحماية الاجتماعية، والتعليم، والعدالة. وقد أعاد الحزب هيكلة الأمانة العامة على أساس قضايا السياسات العمومية بعد 2021، ليصبح حزباً مرتكزاً على هذه الإشكاليات .
3. سيرورة التدافع الحضاري: تركزت حول قضيتين مركزيتين: الأسرة (مشروع تعديل مدونة الأسرة) والقضية الفلسطينية (موقف الحزب الرافض للتطبيع والمؤيد للمقاومة، الذي يتجاوز الحسابات الانتخابية والسياسية) .
4. سيرورة تنظيمية: أفرزت تجديداً قيادياً بنسبة معتبرة في المؤتمر الأخير (النصف أو أكثر من الأمانة العامة جديد) وتجديداً للوائح العضوية.
المحور الرابع: الواقع الجديد والسياق الذي يشتغل فيه الحزب
حدد الخلفي أربعة تحديات بنيوية كبرى في الواقع الذي يشتغل فيه الحزب اليوم، وهي تحديات يجب أخذها بعين الاعتبار عند تحديد الرؤية المستقبلية:
1. أزمة النخبة الحزبية: وجود بيئة (Ecosystem) لا تتوفر فيها شروط التنافس الديمقراطي السليم، حيث يتم اللجوء إلى آليات غير ديمقراطية (سلطوية، رقمية، إفساد انتخابي، تلاعب بالنتائج، وشراء لرؤساء مكاتب التصويت) [32، 33]. وشدد على أن الحقل السياسي قد “التحق” (Converged) بالحقل الاقتصادي الريعي الذي كان سائداً في التسعينيات. وذكر الخلفي أن تجاوز الأعطاب التي أشار إليها خطاب العرش 2017 أساسي لحياة سياسية سليمة.
2. الوصفة السياسية الجديدة (منذ 2017): تتميز بالتمكين لرجال الأعمال في الحقل السياسي، ورفع شعار “التنمية أولاً”، بما يعني أن الديمقراطية ليست شرطاً للتنمية. الخلفي انتقد هذه الوصفة، مؤكداً أنه لا يمكن تصور ديمقراطية بدون تنمية ولا تنمية بدون ديمقراطية، مضافاً إليهما عنصر القيم.
3. بروز ثلاثية السلطوية والتغول الليبرالي والتفسخ القيمي: ملاحظة لسياق عالمي يشهد مدّاً سلطوياً، وجزراً للديمقراطية، وتغولاً لـ “الليبرالية المتوحشة” (تحجيم دور الدولة اجتماعياً واقتصادياً)، إضافة إلى نزعة معادية للأسرة وتفكيكها.
4. تحديات استقلال القرار الوطني والتدخل الأجنبي: صعود تحديات استهداف الوحدة الترابية (مثل مساعي الدانمارك لمراجعة الاتفاق الفلاحي). وبروز استراتيجيات لدول (بما فيها المراكز الصهيونية) لـ “صياغة توجهات الشعوب” عبر التدخل الرقمي الأجنبي .
رؤية للمستقبل: يستشرف الخلفي مستقبلاً واعداً يتعزز فيه موقع الحزب السياسي والانتخابي. ورغم أنه يرى أن الحزب لم يتعافَ بعد بشكل كامل ليضمن العودة للحكومة، إلا أنه أكد أن رهان المستقبل يكمن في ربح رهان المعارضة بتموقع سياسي وازن وكبير، مع الاستمرار في خوض “معركة كبيرة” للانتخابات [38، 39]. الهدف الاستراتيجي الأكبر هو تثبيت ثلاثية الديمقراطية والتنمية والقيم.
المحور الخامس: ردود السيد مصطفى الخلفي على تساؤلات الجمهور
قدم السيد الخلفي توضيحات مفصلة في رده على أسئلة الشباب التي لامست مواضيع دقيقة مثل البرنامج المستقبلي، إشكالية الزعامة، ومقارنة أحداث الريف:
1. البرنامج الانتخابي والبعد المذهبي (مثال الأبناك التشاركية):
◦ أشار الخلفي إلى أن اتهام الأبناك التشاركية بأنها “مجرد تحايل” حكم غير دقيق، داعياً الشباب إلى دراسة القوانين المنظمة وقرارات الهيئة الشرعية. وأوضح وجود فرق جوهري في قضايا مثل غرامات التأخير مقارنة بالفائدة الربوية في الأبناك التقليدية.
◦ أعلن أن لجنة البرنامج الانتخابي (برئاسته) بدأت العمل، وأن الأولويات تتضمن: الصحة، والتعليم، والتشغيل، والأمن الغذائي والطاقي والمائي، وصيانة الموارد العمومية، والإصلاح السياسي ومكافحة الفساد.
◦ ودعا الشبيبة إلى إعداد مذكرات في هذا الإطار، مشيراً إلى إطلاق منصة للإنصات العمومي في أكتوبر/نوفمبر لتلقي الاقتراحات من عموم المواطنين. ومن المقرر أن يكون البرنامج جاهزاً في شهر مارس.
2. إشكالية الزعامة والتجديد القيادي:
◦ نوّه الخلفي بجهود الأستاذ عبد الإله بنكيران في قيادة معركة إعادة البناء بصبر. وأكد أن وجود الزعامات والقدوة أمر طبيعي في التجمعات البشرية.
◦ أوضح أن القيادات الحالية برزت عبر مسار طبيعي استغرق حوالي 20 سنة (في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات) من التفاعل والمساهمة الفكرية والعمل التواصلي، مشدداً على أن التجديد لا يمكن أن يتم “بالبَطّونة” أو بقفز المراحل.
◦ أقر بأن الحزب دخل حالياً في مرحلة انتقال قيادي بسبب اعتبارات موضوعية. وأن المسؤولية تقع على الشباب في تفعيل بنيات التوجيه والمشاركة لـ “إفراز القيادات بطريقة طبيعية” وضمان عدم تحول الحزب إلى “مَسخ حزبي” .
3. ملف الحسيمة والمقارنة بـ “آيت بوغماز”:
◦ أوضح الخلفي أن المقارنة بين الحسيمة وآيت بوغماز، والتي استفزت بعض الحضور، كانت تهدف إلى إبراز دور الوسيط الحزبي الفعال. في آيت بوغماز، حل الحزب المشكلة بسرعة دون اعتقالات. أما في الحسيمة، فإن غياب الوسيط الفعال اضطر الناس للدفاع عن أنفسهم، مما أدى إلى العواقب المعروفة.
◦ أكد أن الحزب يتبنى منهجية تكبير نقطة الضوء، مشيراً إلى أن تنويهه بالسماح لنزار الزفزافي بحضور جنازة والده (رحمه الله) جاء من باب الإيجابية، على أمل أن يكون هذا منطلقاً لـ “إفراج كامل”.
◦ شدد على أن الحزب يسعى إلى المصالحة وقطع الطريق على من يسعى لزرع التوترات، وأن مسؤولية الفاعل الحزبي تكمن في أن يكون حزباً مسؤولاً في علاقاته مع المجتمع والدولة [95، 98].
4. قضية العزوف السياسي (رد على التساؤلات حول الثقة والمشاركة):
◦ أشار الخلفي إلى أن إشكالية العزوف السياسي تشغل السلطات والأحزاب والمواطنين على حد سواء.
◦ أكد أن الداخلية حالياً تطرح مبدأ المسؤولية المشتركة بين الدولة والأحزاب في معالجة العزوف وتخليق العملية الانتخابية.
◦ حذّر من أن العزوف السياسي يخدم النموذج الانتخابي الريعي والفساد، حيث يسهل شراء الأصوات من قبل أحزاب “الأعيان”. ودعا الشبيبة إلى استئناف دورها في التوعية والتسجيل في اللوائح الانتخابية لمواجهة هذا النموذج الجاهز الذي يضر بالبلاد.