موقع روسيا و أوروبا في ميزان السياسة الخارجية الأمريكية في عهد دونالد ترامب.
كيف يمكن تقييم نتائج لقاء ترامب بوتين؟. وما موقع أوروبا من هذا الحدث الذي صنفته الصحافة العالمية باللقاء التاريخي؟.

د.تدمري عبد الوهاب – طنجة في 22 غشت 2022
صحيح أن الموضوع الظاهري هو البحث عن سبل إنهاء الحرب في أوكرانيا. لكن بدل أن يتحدث الطرفان عن وقف إطلاق النار كخطوة أولى لبدء مفاوضات سلام بين بلد معتدي وتوسعي يشكل تهديدا للأمن الأوروبي وآخر معتدى عليه حسب السردية الغربية التي لم تعد مقنعة لأي متتبع لطبيعة هذا الصراع، ذهب الطرفين إلى البحث في كيفية عقد اتفاقية سلام ترسم الملامح الجديدة للعلاقات الدولية التي تفيض على الجغرافيا الاوكرانية لتشمل موضوع الأسلحة الاستراتيجية و جل ملفات المناطق التي تشهد نزاعات يؤطرها الصراع الاستراتيجي الحالي بين قوى تقليدية بزعامة أمريكا وقوى عالمية جديدة خاصة روسيا والصين، التي كانت الحاضر الغائب في هذا الاجتماع من خلال الاتصال الهاتفي الطويل الذي أجراه الرئيس بوتن مع الرئيس الصيني قبيل هذا اللقاء في ألاسكا.
كل هذا دون إعطاء أي أهمية لمسألة وقف إطلاق النار في أوكرانيا التي طالما شكلت مطلبا رئيسيا لزيليتسكي وأوروبا.. وعملت الدول الأوروبية لتحقيق هذه الغاية على تصعيد الصراع مع روسيا. .بل و تبنت مواقف معارضة لتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة المتفهمة للمطالب الروسية المتمثلة في ضرورة حفظ أمنها الاستراتيجي . وذلك من أجل ثني ترامب للتراجع عن مواقفه من هذه الحرب . وهي المواقف التي اعتبرتها هذه الدول وأوكرانيا وقيادات من الديموقراطيين الأمريكيين وبعض الجمهوريين من حزب ترامب الراغبين في تصعيد الصراع الغربي الروسي انحيازا للجانب الروسي .بل و عملت هذه القوى مجتمعة على التأثير في مواقف الرئيس الأميركي عبر التشكيك في النوايا الروسية من عملية السلام و إظهار روسيا كمصدر تهديد لأوروبا والغرب في حال ثبتت مطالبها في أوكرانيا .
هذا كله بهدف استمالة ترامب من جديد الى صف دعاة الحرب عليها و إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا .هذا رغم التداعيات المرعبة التي يمكن أن تتمخض عن هذا النهج التصعيدي الذي سبق أن لخصه دونالد ترامب عند استقباله زيلينسكي في شهر أبريل من السنة الحالية حين قال بالحرف” ان ما تطلبه من مساعدات سيؤدي بنا لحرب عالمية مدمرة للبشرية. “. علما كذلك ان هذه الضغوط الأوربية كانت قاب قوسين او أدنى من تحقيق أهدافها خاصة بعد أن لوح ترامب بالعقوبات الصارمة ضد روسيا وشركائها .و حدد مهلة 10 أيام لروسيا من أجل وقف القتال .
و استتبع ذلك بتحريك غواصات نووية أمريكية لتكون على مقربة من الحدود الروسية ردا على التصعيد الكلامي من الرئيس الروسي السابق ميدفيديف الذي لوح بإمكانية استعمال روسيا اليد الميتة في حال نشوب حرب نووية . وكذا رد بوتين من بيلاروسيا على تهديد ترامب بإعلانه الدخول في الإنتاج التسلسلي لصواريخ اوريشنيك . وهو ما أعطى أملا للغرب الأوروبي وأوكرانيا في أن يلحق ترامب يصف صقور الحرب الأوروبيين والأمريكيين ضد روسيا وعلى رأسهم فرنسا وألمانيا وإنجلترا.

لكن ما لم يكن منتظرا ومحسوبا بالنسبة للدول الأوربية وأوكرانيا ، هو ان ترامب وكما وصفته في مقال سابق، رجل مخضرم في عقيدته السياسية بحيث يجمع بين المدرسة الواقعية لمير شايمر الداعية إلى الحوار مع القوى العالمية الجديدة. مع استعمال قوة النموذج الأمريكي في الاقتصاد والتجارة والسياسة أو ما يسمى بالقوة الناعمة. وكذا المدرسة المحافظة التقليدية لصامويل هانتنغتون الداعية إلى استعمال القوة الصلبة في العلاقات الخارجية للحفاظ على المصالح الأمريكية خاصة مع الدول التي لا تتوفر على وسائل الردع الاستراتيجي مع الحفاظ داخليا على نقاوة العنصر الأبيض الأمريكي والثقافة الانجلو بروتستانتية الضامنة لاستمرار عظمة الامة الامريكية .
وهو بالتالي ما يفسر الاستدارة الكلية لترامب وذلك قبل يومين من انتهاء المهلة المحددة من طرفه . عندما أعلن عن اللقاء التاريخي بينه وبين بوتين في ألاسكا في غياب كلي للزعماء الأوروبيين. وهو اللقاء الذي أظهر من جديد أهمية موقع روسيا في السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة التي تطمح الى عقد اتفاقيات اقتصادية و تجارية استراتيجية معها مع العمل على رسم معالم السياسة الدولية المستقبلية. وليس من المستبعد التحضير لعقد لقاء ثلاثي او رباعي يشمل كل من أمريكا وروسيا والصين والهند في المدى المنظور رسم معالم النظام العالمي الجديد .
إن أمريكا تحت القيادة الجديدة لم تعد ترى في أوربا ذلك الشريك والحليف الاستراتيجي .خاصة بعد أن تحول الصراع من مستواه الأيديولوجي الذي كثفته مرحلة الحرب الباردة ، إلى صراع على مستوى المصالح الاقتصادية والتجارية في المرحلة الحالية وذلك بعد أن تبنت جل دول العالم اقتصاد السوق ولو بخصوصيات اجتماعية وحضارية وثقافية محلية .كما أن أوربا بالنسبة لأمريكا لم تعد تشكل تلك القيمة المضافة التي كانت تتمتع بها خاصة عندما كانت تشكل مركز ثقل صناعي تتفرد به عن باقي دول العالم. و مصدرا للكثير من المعادن التي تنهيها من مستعمراتها السابقة.وهو ما لم يعد ميزة لها بعد أن تعددت المراكز الصناعية الأكثر تطورا في قارات اخرى خاصة في آسيا . وبعد أن فقدت الهيمنة على الكثير من مستعمراتها التي كانت مصدر ثرواتها المعدنية . علما أن القارة العجوز استنفذت كل مخزونها من هذه الثروة في مرحلة الثورة الصناعية ولم تعد ذا قيمة كبيرة بالنسبة لامريكا.
ان امريكا ترامب التي تعتبر مسألة الدفاع عن أمن أوروبا عبء عليها .وان الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية هي حرب اوكرانية واوروبية وليست حرب أمريكية . وان دورها هو التوسط لإيقاف هذه الحرب التي أودت بحياة المئات من الآلاف، مع تفهم المطالب الأمنية الروسية . وفي نفس الآن العمل على فتح علاقات جديد معها تشمل المجالات الاقتصادية و التجارية والسياسية وذلك ضمن استراتيجية جديدة تروم إلى أن تحل محل الشركات الأوروبية في روسيا والتي كانت قبل الحرب الروسية الاوكرانية تحتل المرتبة الأولى على مستوى الاستثمارات، التي شملت جل القطاعات الأساسية وبلغ حجمها ما يعادل 288 مليار دولار. في حين كان هذا الرقم لا يتجاوز 9 مليارات من الدولارات بالنسبة للشركات الامريكية .
ان سياسة امريكا ترامب تجاه أوروبا التي يبدو انها فقدت موقعها المتقدم في السياسة الخارجية الامريكية و محاولتها الدخول إلى السوق الروسية الواعدة بقدراتها وإمكانياتها على حساب المصالح الاقتصادية والتجارية لاوربا تعيدنا إلى صفقة الغواصات الفرنسية الأسترالية التي استولى عليها دونالد ترامب في ولايته السابقة والتي كانت بقيمة 60 مليار دولار.
خلاصة
ان اللقاء التاريخي الذي جمع بوتين بدونالد ترامب في غياب أي حضور لأوروبا رغم أن الموضوع الرئيسي هو الحرب في أوكرانيا المدعومة بقوة من طرف الدول الأوروبية التي تعتبر هذه الأخيرة خطها الدفاعي الأول ضد روسيا.وهو اللقاء الذي وصفه الطرفين بالايجابي والبناء رغم أن لا شيء جديد يذكر خرج الى العلن رغم أنه تناول ملفات عديدة . مع اتفاق الجانبين على عقد لقاء ثاني في روسيا. كما أن اللقاء الذي تلاه وحضر فيه سبعة قادة أوروبيين مؤازرين لزيلينسكي في البيت الأبيض والذي لم يفض إلى أي نتيجة تذكر ، باستثناء ما تناقلته وسائل الإعلام الدولية حول مقاطعة ترامب للاجتماع من أجل التواصل هاتفيا مع بوتين تاركا وراءه ضيوفه الذين قطعوا آلاف الأميال من أجل هذا الاجتماع الذي بدأ صوريا أكثر منه جديا . ولم يفض إلى أي نتيجة فيما طرحوه من مطالب خاصة ما تعلق منها بوقف الحرب او الضمانات الأمنية لاوكرانيا.
كل ما سبق ذكره يقودنا إذن للقول إن الحرب في أوكرانيا التي أشعلت فتيلها و غذتها في البداية إدارة بايدن بهدف إضعاف روسيا واستنزافها اولا. وثانيا هدم جسور التواصل الاقتصادية والتجارية والأمنية التي تم بناؤها بين أوروبا وروسيا خلال العقدين الأخيرين وذلك عبر اقحام الدول الأوربية في هذا الصراع. وهو ما لم تتنبه له هذه الدول التي وجدت نفسها متورطة أكثر فأكثر في صراع لا رجعة فيه ، و تداعياته ستكون وخيمة عليها على المدى الطويل.
وكذلك ما شهدته التحولات الأخيرة في مواقف الإدارة الأمريكية الجديدة وخاصة بالعلاقة مع الحرب في أوكرانيا . أو في اتجاه كل من أوربا التي يبدو أنها بدأت تفقد أهميتها الإستراتيجية . و كذا روسيا التي أصبحت شريكا اكيدا في صنع السلام العالمي و شريكا مطلوبا في مجال التجارة والاقتصاد والأعمال . كل هذا يثبت مدى التكامل في السياسة الخارجية الأمريكية رغم التباين في مواقف إداراتها المتعاقبة التي تقوم في جوهرها على مبدأ امريكا اولا ولو باختلافات في الأساليب.
ان اللقاء التاريخي بين ترامب وبوتين يثبت بما لا يدع مجالا للشك . أن السياسة علم يؤجرئه السياسي .وأن القوة هي من تصنع السلام .وأن السلام هو من يفتح آفاق الشراكات الاقتصادية والتجارية على مبدأ رابح رابح. والخاسر دائما هو من يخطىء في حساباته ،و يتوسل الحماية من اسياده كما حال اوروبا والكثير من دول العالم الفاقدة للسيادة واستقلالية قراراتها السياسية والاقتصادية والامنية.