GIL24-TV المغرب بسرعتين: واقع مُزدوج وتحديات التنمية المنسية

عبارة “لا مكان لمغرب يسير بسرعتين” هي العبارة الأكثر إثارة لانتباه الرأي العام في الخطاب الملكي الأخير، وأكثر جملة ترددت في تعليقات المعلقين على خطاب العرش. هذه العبارة تُعد تشخيصًا دقيقًا لواقع اقتصادي واجتماعي مُركّب يقسّم المواطنين والخدمات والتجهيزات إلى قسمين. المغرب، كما يتضح، لا يعيش تطورًا موحدًا بل واقعًا مزدوجًا وفوارق مجالية عديدة.
ماذا يعني “المغرب بسرعتين”؟
المغرب “بسرعتين” تعبير مستلهم من الأسلوب الفرنسي “à deux vitesses”، وقد ظهر هذا التعبير في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية لوصف واقع اقتصادي يقسم المواطنين والخدمات إلى نوعين. في السياق المغربي، يشير إلى:
• قسم يسير بسرعة كبيرة: يتمثل في المدن الكبرى وعواصم المال والتجارة.
• قسم يسير بإيقاع السلحفاة: يتمثل في البوادي والمناطق النائية والمدن الصغيرة والمهمشة.
هذا التعبير ليس جديدًا في المعجم السياسي المغربي، لكنه جديد في الخطاب الملكي الذي سبق واستعمل تعابير أكثر قسوة عن “المغرب النافع” و”المغرب غير النافع”. إنه تعبير عن اختلال التوازن وغياب العدالة المجالية وعدم تساوي الحظوظ بين المواطنين.
فوارق صارخة في الواقع المعيش
الواقع المعيش في المغرب اليوم يعكس هذه الفوارق بوضوح. على سبيل المثال، يمكنك أن ترى سيارة بنتلي تبلغ قيمتها ملايين الدراهم تسير في نفس الشارع الذي تجر فيه عربة ببغل وعليها عدد كبير من البشر، وذلك لغياب النقل العمومي في بعض الأحياء. جل مدن المغرب اليوم مجرد “صناديق أسمنتية بطوابق مغلقة للفقراء” في أحيائهم وشوارعهم، بينما يمتلك الأغنياء “أحياءهم الراقية وفيلاتهم الفسيحة وفنادقهم البهية وطرقهم المعبدة التي تنقلهم غالبًا من البيت إلى المطار”.
هذه الفوارق ليست وليدة اليوم، بل هي موروثة من أيام الاستعمار الفرنسي والإسباني الذي طوّر الساحل الغربي والشمالي ومدن الموانئ وشبكة السكك الحديدية لخدمة مصالحه، وترك العالم القروي يعيش في ظروف القرون الوسطى دون طرق أو ماء أو كهرباء أو بنية تحتية. وحتى بعد الاستقلال، سارت الدولة على نفس النهج، وكانت أولوياتها ضبط الاستقرار وليس التنمية.
تأثير التفاوت على حياة المواطنين
• متوسط العمر: تُظهر أرقام 2020 أن متوسط العمر في المدن أعلى بحوالي خمس سنوات عنه في البوادي، وهذا بسبب التفاوت في الوصول إلى العلاج والدواء والمستشفيات والتغطية الصحية وجودة الماء والطعام والعمل.
• سوق الشغل: يتركز التوظيف عمومًا في المجال الحضري، بينما يواصل العالم القروي فقدان فرص الشغل بسبب موجات الجفاف وسوء توزيع المياه، مما يؤدي إلى الهجرة نحو المدن.
• الفقر: ما يزال الفقر متركزًا بنسبة عالية في البوادي، خاصة في الجبال والهضاب والصحاري البعيدة عن المركز، حيث موارد الدخل محدودة.
• التعليم: معدلات الهدر المدرسي، خاصة بين الفتيات، أكبر بكثير في القرى النائية بسبب غياب المدارس الإعدادية والثانوية والإنترنت.
• السياحة: سجل المغرب في 2024 رقمًا قياسيًا في عدد السياح، لكن الغالبية الساحقة من الإيرادات والخدمات تتركز في المدن الكبرى مثل مراكش وأكادير وطنجة والدار البيضاء والرباط، مما يعزز الفارق بين المدن والبوادي التي غابت عنها استراتيجيات السياحة القروية.
المركزية المفرطة وعقبات التنمية
أحد أبرز مظاهر هذا الاختلال هو التخطيط المركزي للمشاريع دون مراعاة الواقع المحلي. قصة توزيع رؤوس الماعز في الأطلس المتوسط كجزء من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في عام 2015 هي خير مثال. الخبراء في الرباط تخيلوا مشروعًا ممتازًا لتربية الماعز وإنتاج الحليب وبيعه لمركز تجميع الحليب، لكن عندما زارت اللجنة القرى بعد عام، وجدوا أن الماعز قد ذُبحت وأُكلت. السبب بسيط ومؤلم: لا توجد طرق لمركز الحليب ليأتي ويشتري منهم الحليب، وفي فصل الشتاء، تغطي الثلوج كل شيء، ويصبح القرويون ومعيزهم في عزلة كاملة، مما يجبرهم على أكل الماعز للبقاء على قيد الحياة. هذه القصة تكشف حجم الشرخ بين من يخططون المشاريع في المكاتب المكيفة في الرباط وبين واقع الناس في المناطق النائية.
هذا الواقع يطرح سؤالًا كبيرًا حول فعالية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي وإن لم تفشل، إلا أنها لم تحقق مهمتها الأساسية في تقليص الفوارق وجبر الضرر الاجتماعي.
الحلول المقترحة ومستقبل المغرب
لتقليص هذه الفوارق، وليست إزالتها كليًا، هناك عدة حلول عملية مقترحة:
1. الطرق وفك العزلة: ربط البادية بشبكة طرق جديدة هو المطلب الأول لسكان العالم القروي، فهو أساس فك العزلة.
2. الجهوية الحقيقية: لا تنمية مجالية بدون جهوية حقيقية ومخططات محلية وصلاحيات كبيرة لرؤساء الجهات والمجالس المحلية. يجب التخلص من المركزية المفرطة لوزارات الداخلية والمالية، التي لا تثق في المنتخبين المحليين وتخاف من بروز نخب حقيقية.
3. التمويل الكافي: التنمية تتطلب ميزانيات ضخمة وأموالًا كبيرة. ميزانية المغرب السنوية لا تتعدى 72 مليار يورو، وهي أقل بكثير من دول صغيرة مثل بلجيكا (340 مليار يورو)، بينما المغرب ملتزم بمشاريع مكلفة مثل بناء ملاعب كأس العالم وتمديد السكك الحديدية فائقة السرعة، وهي مشاريع تزيد من سرعة “مغرب المونديال” على حساب “مغرب اللامونديال”. يجب على الحكومة أن تشرح من أين ستأتي بمئات الملايين لتمويل “جيل جديد من التنمية المحلية”.
في ظل غياب نقاش حقيقي حول هذه القضايا، ومع موجة ارتفاع الأسعار الصيفية التي وصفها البعض بأنها “محنة حقيقية للمواطن وللمهاجر على حد سواء”، يتساءل الكثيرون: هل نريد فعلاً مغربًا متوازنًا، أم أننا تعودنا على مغرب بسرعتين، واحد يركض نحو الواجهة العالمية والآخر يُترك لبرد الثلج وحرارة الصيف في رؤوس الجبال؟. بناء الإنسان مقدم على أي شيء، ولربط مغرب اليوم بمغرب الغد، كي لا نبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة بين “مغرب نافع” و”غير نافع”، لا بد من إرادة سياسية حقيقية، فهي الرافعة التي ينبثق منها الأمل.