تقرير : العقوبات البديلة في المغرب – ثورة في العدالة الجنائية تواجه تحديات تنفيذية

جرادة، 9 يوليوز 2025
يمثل القانون رقم 43-22 المتعلق بالعقوبات البديلة، الذي دخل حيز التنفيذ في غشت 2024، تحولاً تاريخياً في السياسة الجنائية المغربية. يهدف القانون إلى إنسنة العدالة الجنائية، معالجة الاكتظاظ السجني، تقليل التكاليف، والحد من العود إلى الجريمة، من خلال الانتقال من العقوبات الحبسية إلى بدائل تركز على التأهيل والإدماج الاجتماعي. ورغم الآمال المعلقة على هذا “القفزة النوعية”، يواجه القانون تحديات تشريعية، لوجستية، ومجتمعية تهدد فعاليته.
بتاريخ 9 يوليوز 2025، نظمت المحكمة الابتدائية بجرادة بالشراكة مع ودادية موظفي قطاع العدل، ممثلة في مكتبها التنفيذي والمكتب الجهوي بالشرق، وكذا مكتبها الاقليمي بجرادة. وقد نُظمت هذه الندوة في إطار النقاش العمومي حول المستجدات القانونية، خاصة القانون رقم 43-22 المتعلق بالعقوبات البديلة. وتأتي هذه المبادرة ضمن سلسلة من الأيام الدراسية التي تهدف إلى تنزيل البرنامج الثقافي للجمعية العامة للمحكمة، وتعزيز قدرات القضاة المهنية، وتبادل الآراء والمعارف مع القطاعات الأخرى. كما تُعد هذه الندوة بمثابة خريطة عمل ومحطة لتحسيس المواطنين والمتدخلين.
تقريرنا يجسد تلخيصا عاما للتدخلات حسب ترتيب التدخلات:
الجلسة الافتتاحية عرفت تدخل كل من:
- ذ.عمرو قريوح، رئيس المحكمة الابتدائية بجرادة،
- ذة. كريمة إدريسي، وكيلة الملك لدى المحكمة الابتدائية بجرادة،
- ذ. عبد الوهاب التجمعتي، ممثل ودادية موظفي قطاع العدل،
الندوة التي سيرها ذ. اسماعيل اجداين ، رئيس مصلحة بالمديرية الاقليمية للعدل بوجدة، عرفت تدخل كل من :
- ذ. لشقار خليل، قاضي تطبيق العقوبات البديلة بالمحكمة الابتدائية بجرادة،
- ذ. أمين الخنتوري، نائب وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بجرادة،
- ذة. قدوري فاطمة، رئيسة كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية بتاوريرت،
- ذ. سعد عبد الشفيق، مدير السجن المحلي بوجدة،
- ذ. ابراهيم متفي، باحث مراقب قسم الشؤون الاقتصادية والتنسيق بعمالة جرادة،
- ذ. عبداللطيف بضعة، محام بهيئة جرادة.
بعد ذلك عرفت الندوة تدخل كل من :
- الاستاذ محمد دحماني، رئيس محكمة الاستئناف بوجدة
- الأستاذ مصطفى يرتاوي، الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بوجدة.
خلفية الإصلاح: أزمة السجون والحاجة إلى التغيير
يعاني النظام السجني في المغرب من تحديات مزمنة، أبرزها الاكتظاظ الشديد، حيث يبلغ عدد السجناء حوالي 105,000 سجين، نصفهم محكومون بعقوبات حبسية أقل من خمس سنوات. هذا الاكتظاظ يفاقم التكاليف المالية، التي تثقل كاهل الدولة، ويسهم في ارتفاع معدلات العود إلى الجريمة، مما يكشف عن فشل العقوبات الحبسية في تحقيق الردع أو الإصلاح. وفقاً لأحد المتدخلين، تكلفة السجين الواحد مرتفعة، ولا يتماشى ذلك مع النتائج المحدودة في إعادة تأهيل المحكوم عليهم.انطلاقاً من هذه الإشكاليات، جاء القانون 43-22 كجزء من إصلاح شامل للعدالة الجنائية، مستلهماً توجيهات ملكية (خطاب 2009)، الدستور المغربي الذي يعزز المرجعية الحقوقية الدولية، وتوصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى نقاشات مؤتمرات مثل “سرباط” و”إفريقيا” عام 2002. يهدف القانون إلى تخفيف الضغط على السجون، تقليل التكاليف، وتعزيز إعادة الإدماج الاجتماعي للمحكوم عليهم، مع الحفاظ على الأمن العام وحقوق الضحايا.
ملامح القانون 43-22: فلسفة جديدة للعقابي
تمحور القانون حول أربعة أنواع رئيسية من العقوبات البديلة، تهدف إلى استبدال العقوبات الحبسية قصيرة المدة (أقل من 5 سنوات) في الجنح:
- العمل للمنفعة العامة: يتراوح بين 40 و3600 ساعة، ويستهدف الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 15 سنة، ويُنفذ في أماكن محددة تحت إشراف لجان محلية.
- المراقبة الإلكترونية: تعتمد على استخدام سوار إلكتروني لتتبع المحكوم عليه، مع تحمل الدولة لتكاليف التجهيزات.
- تقييد الحقوق أو التدابير العلاجية/التأهيلية: تشمل برامج إعادة تأهيل أو علاج نفسي/طبي لمعالجة أسباب الجريمة.
- الغرامة اليومية: تتراوح بين 100 و2000 درهم يومياً، وتُحدد بناءً على الوضعية المالية للمحكوم عليه.
يُطبق القانون على الجنح بعقوبات نافذة، مع استثناء الجرائم الخطيرة مثل الإرهاب، الفساد، غسل الأموال، الاتجار الدولي بالمخدرات، والاستغلال الجنسي للأطفال. يُشترط أن يكون الحكم نافذاً وألا يكون المحكوم عليه عائداً إلى الجريمة، مما يعزز التركيز على التأهيل بدلاً من الردع الصرف.
الجهات الفاعلة: تنسيق معقد لضمان التنفيذ
يعتمد نجاح القانون على تعاون مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، لكل منها دور محدد:
- قاضي تطبيق العقوبات:
- يُعتبر الركيزة الأساسية، حيث يشرف على تنفيذ العقوبات البديلة، يصدر المقررات التنفيذية، ويتابع الالتزام عبر زيارات ميدانية. يملك سلطة استبدال العقوبة البديلة بالحبس في حالة الإخلال، ويشارك في تحديد مدة العقوبة وشروطها.
- يعمل بناءً على اختصاص محلي (دائرة المحكمة الابتدائية) أو ممتد (تفويض إلى محكمة أخرى)، مما يتيح مرونة ولكنه يزيد من تعقيد التنسيق.
- النيابة العامة:
- تلعب دوراً اقتراحياً ورقابياً، حيث تقدم ملتمسات لتطبيق العقوبات البديلة قبل الحكم، تشرف على الأبحاث الاجتماعية، وتطعن في الأحكام لحماية الصالح العام وحقوق الضحايا. كما تُحيل الملفات إلى قاضي تطبيق العقوبات خلال آجال محددة (5 أيام للعمل للمنفعة العامة).
- إدارة السجون (المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج):
- تحمل مسؤولية التنسيق التنفيذي، حيث أعدت مشروع مرسوم تطبيقي (72 مادة)، منصة إلكترونية وطنية، وبرامج تدريب للموظفين. تشمل مهامها تحديد أماكن العمل للمنفعة العامة، تركيب الأساور الإلكترونية، وتتبع التدابير العلاجية.
- كتابة الضبط:
- توثق الإجراءات، تنسق مع الجهات الأخرى، وتتابع تنفيذ العقوبات، لكنها تعاني من نقص الموارد البشرية واللوجستية.
- السلطات المحلية:
- تُشكل لجاناً محلية برئاسة العامل لتحديد أماكن العمل للمنفعة العامة وتوزيع المحكوم عليهم، مع إعداد تقارير دورية.
- المساعدون الاجتماعيون:
- يقدمون تقارير اجتماعية ويتابعون تنفيذ التدابير العلاجية والتأهيلية.
- المجتمع المدني والإعلام:
- يُدعَوان للعب دور في التوعية والتحسيس لتغيير النظرة المجتمعية تجاه العقوبات البديلة.
التحديات: عقبات تشريعية، لوجستية، وثقافية
رغم الطموحات الكبيرة، يواجه القانون 43-22 تحديات متعددة الأبعاد:
- التحديات التشريعية:
- غموض النصوص: مصطلحات مثل “المؤثرات العقلية” غير محددة، وإجراءات الطعون والمساواة في الغرامة اليومية غير واضحة. كما أن رد الاعتبار وحماية حقوق المحكوم عليهم بحاجة إلى توضيح.
- تغييب مركز الضحية: عدم إدراج آليات واضحة لحماية حقوق الضحايا قد يثير انتقادات حول تحقيق العدالة التصالحية.
- ازدواجية المسارات: تعارض محتمل بين الطعون والتنفيذ، خاصة مع غموض المحكمة المختصة بالطعون.
- التحديات اللوجستية:
- نقص الموارد: نقص في الموارد البشرية المؤهلة (قضاة، موظفو سجون، مساعدون اجتماعيون) والبنية التحتية التقنية، خاصة للمراقبة الإلكترونية.
- تكلفة المراقبة الإلكترونية: السوار الإلكتروني مكلف، مما يتطلب تمويلاً مستداماً.
- السجلات الورقية: الاعتماد على السجلات الورقية يعيق الكفاءة، بينما المنصة الإلكترونية لا تزال في مراحلها الأولى.
- التحديات المؤسساتية:
- تعقيد التنسيق: تعدد الجهات الفاعلة يجعل التنسيق صعباً، خاصة مع غياب معايير موحدة.
- جاهزية المؤسسات: إدارة السجون وقضاة تطبيق العقوبات بحاجة إلى تكوين مستمر ودعم لوجستي.
- استقلالية قاضي تطبيق العقوبات: تحتاج إلى مكتب مستقل وموارد كافية.
- التحديات المجتمعية والثقافية:
- ثقافة الحبس: المجتمع المغربي يرى العقوبات الحبسية كوسيلة أساسية لتحقيق العدالة، مما يجعل قبول العقوبات البديلة تحدياً.
- تغييب الضحية: عدم إشراك الضحايا قد يقلل من شرعية القانون في نظر المجتمع.
- الحاجة إلى التوعية: غياب حملات تحسيسية فعالة يعيق فهم المواطنين لفوائد العقوبات البديلة.
دور المندوبية العامة لإدارة السجون: محور التنفيذ
تلعب المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج دوراً مركزياً في تنفيذ القانون. فقد شاركت في إعداد مشروع المرسوم التطبيقي (72 مادة)، وتصور هيكلي للاحتياجات البشرية والتقنية، بالإضافة إلى إنشاء منصة إلكترونية وطنية لتتبع العقوبات. تشمل مهامها:
- التنسيق: تحديد أماكن العمل للمنفعة العامة، تركيب الأساور الإلكترونية، وتتبع التدابير العلاجية.
- التدريب: تكوين الموظفين وإعداد دلائل مسطرية.
- الزيارات الميدانية: لمراقبة تنفيذ العقوبات.
- التوثيق: إعداد تقارير دورية وتتبع الإخلالات.
ومع ذلك، تواجه المندوبية تحديات كبيرة، أبرزها نقص الموارد البشرية والتقنية، والانتقال من فضاءات مغلقة (السجون) إلى فضاءات مفتوحة، مما يتطلب إعادة هيكلة ثقافة العمل المؤسساتي.
دور النيابة العامة وقاضي تطبيق العقوبات
النيابة العامة تتحمل مسؤولية اقتراح العقوبات البديلة قبل الحكم، الإشراف على الأبحاث الاجتماعية، والطعن في الأحكام لحماية الصالح العام وحقوق الضحايا. كما تُحيل الملفات إلى قاضي تطبيق العقوبات وتشارك في متابعة التنفيذ. ومع ذلك، تواجه تحديات مثل غموض إجراءات الطعون وصعوبة التنبؤ بالأحكام النافذة.قاضي تطبيق العقوبات هو العمود الفقري للتنفيذ، حيث يصدر قرارات تنفيذية، يحدد شروط العقوبات، ويتابع التزام المحكوم عليهم. دوره يتطلب استقلالية كبيرة، لكنه يعاني من نقص الموارد اللوجستية والتكوين المستمر، بالإضافة إلى غموض بعض الإجراءات مثل الطعون وحماية حقوق المحكوم عليهم.
آفاق الإصلاح: نحو عدالة إنسانية
يحمل القانون 43-22 وعداً بتحقيق عدالة إنسانية، تقليل معدلات العود إلى الجريمة، وتعزيز الإدماج الاجتماعي. يُنظر إليه كـ”ثورة تشريعية” تهدف إلى مواكبة التوجهات العالمية نحو العقوبات البديلة. ومع ذلك، يعتمد نجاحه على معالجة التحديات المذكورة. تشمل التوصيات الرئيسية:
- تعزيز البنية التحتية: توفير موارد بشرية وتقنية، خاصة للمراقبة الإلكترونية.
- الرقمنة: تطوير منصة إلكترونية شاملة لتتبع العقوبات وتسهيل التنسيق.
- التكوين المستمر: تدريب القضاة، موظفي السجون، والمساعدين الاجتماعيين.
- إصدار نصوص توضيحية: لمعالجة الغموض التشريعي، خاصة فيما يتعلق بحقوق الضحايا وإجراءات الطعون.
- التوعية المجتمعية: إطلاق حملات إعلامية وندوات تحسيسية بالتعاون مع المجتمع المدني والإعلام لتغيير النظرة التقليدية للعقاب.
- إشراك الضحايا: وضع آليات لضمان حماية حقوق الضحايا وإشراكهم في العملية التصالحية.
التحسيس المجتمعي: مفتاح النجاح
يُعتبر قبول المجتمع للعقوبات البديلة تحدياً رئيسياً، نظراً لتجذر ثقافة الحبس كوسيلة أساسية لتحقيق العدالة. النص يؤكد على ضرورة التوعية عبر:
- الندوات العلمية والتحسيسية: لشرح فوائد العقوبات البديلة.
- دور الإعلام والمجتمع المدني: لنشر الوعي وتغيير العقليات.
- إشراك الفاعلين القضائيين: لتوضيح الآليات والفلسفة الجديدة.
بدون حملات توعية فعالة، قد يواجه القانون مقاومة مجتمعية، خاصة مع الشعور بتغييب مركز الضحية.
خاتمة:
رهان استراتيجي لمستقبل العدالةالقانون 43-22 يمثل خطوة جريئة نحو تحديث السياسة الجنائية في المغرب، متجاوزاً النمط التقليدي للعقاب نحو رؤية إنسانية تركز على إصلاح المحكوم عليهم وإدماجهم في المجتمع. ومع ذلك، فإن نجاح هذا الإصلاح يعتمد على التغلب على التحديات التشريعية واللوجستية، وتعزيز التنسيق بين الجهات الفاعلة، وتغيير الثقافة المجتمعية. إذا نجح المغرب في تنفيذ هذا القانون بفعالية، فقد يصبح نموذجاً رائداً للعدالة الجنائية في المنطقة، محققاً توازناً بين حماية المجتمع، حقوق الضحايا، وإعادة تأهيل المحكوم عليهم.