التحولات الشعرية لسامح درويش: رحلة القلق الجمالي
عندما تقترب من سامح درويش تلامسك روه الهايكو حتى الهذيان

نسمة الريح
تُحرّك أوراق الشجر
صوت درويش يهمس في الصمت
في أمسية شعرية مفعمة بالتأمل، استضاف برنامج “ساعة شعر” في حلقته الخامسة الشاعر المغربي سامح درويش، الذي جاء من جزيرة بالي حاملاً معه رياح التجديد وأصداء تجربة إبداعية تمتد لخمسة عقود. درويش، الشاعر الرحالة، ليس مجرد صوت شعري، بل هو نسيج من التحولات، يتنقل بين الشعر العمودي، التفعيلة، قصيدة النثر، والهايكو، كطائر السبد الذي يراوغ ويغري بالإمساك به، لكنه يظل بعيداً، متجدداً، حياً.
من تكفايت إلى بالي: بدايات عمودية وجذور لا تنقطع
في القرية الصغرى
قلمٌ يخطّ أحلاماً
العمودي ينبت في الروح
بدأت رحلة سامح درويش في قرية تكفايت الصغيرة، حيث كتب أولى قصائده العمودية في سن السادسة عشرة، وكأن الشعر كان بذرة مزروعة في تربة الطفولة. في جرادة، حيث أكمل دراسته، نبتت هذه البذرة لتصبح نصوصاً منشورة تحت عنوان “في نعومة الاشعار”. لا يخجل درويش من هذه البدايات، بل يراها جزءاً من نسيج تطوره، إيقاعات داخلية لا تزال تتردد في أعماله، حتى وإن تجاوزها إلى أشكال شعرية أخرى. فالشعر العمودي، كما يقول، لم يمت في ذهنه، بل ظل كالنبض الذي يمنع خمس متحركات متتالية من الظهور في نصوصه، كدليل على ذائقة متأصلة.
التوقف والسرد: البحث عن الصوت الخاص
صمتٌ طويل
الكلمات تتحول طيناً
رواية تنمو في الظل
في لحظة تأمل عميقة، توقف درويش عن كتابة الشعر لما يقارب العقدين، هرباً من تكرار أصوات الآخرين، بحثاً عن صوته الخاص. في هذه الفترة، اتجه إلى السرد، فكتب رواية ” ألواح خنساسا “، التي حملت نفساً شعرياً ملحمياً، ونصوص “هباء خاص” التي بدت قصصية للنقاد، لكنها كانت في جوهرها امتداداً لروحه الشعرية. هذا التوقف لم يكن انقطاعاً، بل كان بمثابة هدنة لاستكشاف أدوات جديدة، ليعود بعدها إلى الشعر بديوان “القهقهات”، الذي ترجمه إلى الفرنسية الاستاذ المبدع محمد العرجوني ونشرته وزارة الثقافة.
الهايكو: ضربة الساموراي
لحظةٌ عابرة
تتكثف في خمس كلمات
الهايكو يحفر الوجدان
في الهايكو، وجد درويش ملعباً جديداً لروحه الشعرية. يصفه بـ”ضربة الساموراي”، حيث تكون المسألة “موتاً أو حياة جمالية”. مع أربعة أعمال شعرية في هذا المجال، أصبح درويش أحد أعلام الهايكو في الأدب العربي الحديث. يرفض فكرة أن الهايكو جنس دخيل، معتبراً إياه “سقفاً جمالياً إنسانياً” يتجاوز الحدود الثقافية. يشبهه بطائر السبد، يغري بالإمساك به لكنه يطير مبتعداً، ويؤكد أن نجاح خمسة أو سبعة نصوص هايكو تحفر في الوجدان هو إنجاز عظيم. الهايكو بالنسبة له ليس مجرد شكل شعري، بل هو جسر يربط الشعر العربي بالإنساني، مفتتحاً نوافذ للتكثيف والتركيز في اللغة والصورة.
قصيدة النثر: البحر الواسع
كلماتٌ ترقص
لا وزن سوى الروح
نثرٌ يتحدى الصمت
في ديوان “برشاقة أكروبات”، يعانق درويش قصيدة النثر، التي يراها الأصعب بين الأشكال الشعرية. تتطلب، كما يقول، أدوات جمالية مقنعة، من صورة وكلمة وبناء جملة، لتتمكن من إقناع القارئ. في قصيدته “أكتب بإصرار عامل بمنجم الفحم”، يستعير صورة العامل في المنجم ليصف عملية الكتابة: اللغة خوذته، الحلم مصباحه، والحبر غبار روحه. هذا التكثيف والتجريد يعكسان قدرته على خلق عوالم شعرية بأدوات بسيطة لكنها عميقة التأثير.
الصحافة: نبض الواقع
جريدةٌ مفتوحة
الحياة تكتب أخبارها
الشعر ينبض بالواقع
لم تكن الصحافة مجرد مهنة لدرويش، بل كانت جسراً بينه وبين نبض الحياة. كمدير لمكتب جريدة الاتحاد الاشتراكي بوجدة، اكتسب أدوات فنية وجمالية لا تزال تتردد في كتاباته. يرى أن الصحافة، عندما تُمارس بقواعدها، تصبح جنساً أدبياً بحد ذاته. احتكاكه المستمر بالواقع عبر الصحافة غذّى إبداعه، وساهم في بناء شبكة علاقات واسعة مع المبدعين، مما أثرى تجربته الأدبية.
قلق الرحالة الشعري
قلمٌ لا يستقر
يبحث عن طين الكون
شعرٌ يولد من القلق
سامح درويش ليس شاعراً يستقر في لون شعري واحد. هو “رحال في الكتابة”، يعيش قلقاً إبداعياً مستمراً، ليس لمجرد التجديد السطحي، بل كحالة وجود تدفعه لاستكشاف أشكال تعبيرية جديدة. يحلم بكتابة الشعر بلا كلمات، بل بالطين أو الخشب، في محاولة لتجاوز حدود اللغة. هذا القلق هو ما جعله ينتقل من الشعر العمودي إلى السرد، ثم إلى قصيدة النثر والهايكو، وما بعدهما، كأنه يبحث عن “رشاقة جديدة للشعر العربي”.
ختاما: جسور الشعر الإنساني
في صمت الليل
كلمات درويش تضيء
جسرٌ إلى الإنسانية
سامح درويش ليس مجرد شاعر، بل هو ظاهرة إبداعية تتحدى التصنيفات. من تكفايت إلى بالي، من الشعر العمودي إلى الهايكو، يظل درويش صوتاً متجدداً يحفر في الوجدان. تجربته تؤكد أن الشعر ليس شكلاً، بل جوهراً إنسانياً يتجسد في أي لغة أو مادة. كما يقول، الشعر “يشطح بك ويلعب بك ويرميك في كل اتجاه”، وسامح درويش هو ذلك الشاعر الذي يرقص مع هذا الشطح، موزعاً نوره على جسور الشعر الإنساني.