د. عمر أعنان : الحرية الرقمية والمسؤولية في الفضاء العام

الرباط، 14 ماي 2025
شهد مقر مجلس النواب بالرباط نقاشًا حيويًا خلال اجتماع لجنة التعليم والثقافة والاتصال، بحضور وزير الشباب والثقافة والتواصل، حيث قدم النائب البرلماني الدكتور عمر اعنان، باسم الفريق الاشتراكي للمعارضة الاتحادية، تدخلًا معمقًا حول قضايا حرية التعبير، الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي.
هذا التدخل، الذي جاء في سياق مناقشة التحديات والفرص التي تطرحها التحولات الرقمية المتسارعة، ألقى الضوء على التناقضات الهيكلية في الواقع الإعلامي المغربي، مع اقتراحات لسياسة رقمية وطنية تعزز الحرية والمسؤولية.
حرية التعبير: تقدم نسبي وتحديات بنيوية
أكد النائب اعنان أن حرية التعبير، كحق دستوري مثبت منذ دستور 2011، تظل ركيزة أساسية لأي تجربة ديمقراطية ناضجة، ومعيارًا لقياس قدرة المؤسسات على الإنصات والإصلاح. وعلى الرغم من التحسن النسبي في ترتيب المغرب بمؤشرات الحرية الإنسانية، حيث قفز بخمس مراتب ليحتل الرتبة 130 من أصل 165 وفق تقرير معهد كاتو لسنة 2024، إلا أن الممارسات اليومية تعكس اختلالات بنيوية. فالمتابعات القضائية ذات الطابع الجنائي ضد الصحفيين والنشطاء الحقوقيين تتناقض مع مبدأ التدرج في العقوبات وتفضيل الآليات المدنية أو التأديبية، وهو ما يتحدى جوهر دولة الحق والقانون.
وأشار الدكتور اعنان إلى هشاشة الحقل الإعلامي، حيث كشفت إحصائيات النقابة الوطنية للصحافة المغربية أن 62% من الصحفيين يعملون دون عقود دائمة، في ظروف مهنية واقتصادية صعبة، مما يقوض استقلالهم واحترافيتهم. كما انتقد الوضعية الغامضة للإعلام العمومي، الذي يعاني من تعيينات غير شفافة واستخدامه أحيانًا كأداة دعاية سياسية بدل منبر للنقاش العام. وفي هذا السياق، دعا الفريق الاشتراكي إلى مراجعة مدونة الصحافة والنشر لتتماشى مع الدستور والمعايير الدولية، وإصدار قانون خاص بالإعلام العمومي يضمن الاستقلالية والتعددية، إلى جانب إحداث صندوق دعم للصحافة الاستقصائية.
الفضاء الرقمي: امتداد للحرية وميدان للتحديات
في سياق التحولات الرقمية، أبرز التدخل أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت امتدادًا للفضاء العام، حيث بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في المغرب 34.47 مليون (90% من السكان)، ومستخدمي المنصات الاجتماعية 21 مليون (55.7%) وفق تقرير “ديجيتال 2024”. لكن هذا الانفتاح يواجه تحديات غير مسبوقة، من قبيل انتشار الأخبار الكاذبة، خطابات الكراهية، والجرائم الإلكترونية. فقد سجلت المديرية العامة للأمن الوطني في 2023 أكثر من 5000 قضية مرتبطة بالجرائم الرقمية، بزيادة 17% عن العام السابق، مما يعكس هشاشة الإطار التنظيمي الحالي.
وأشار النائب إلى أن التطور غير المراقب لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي يفاقم هذه التحديات، حيث تُستخدم لإنتاج محتوى مضلل وفبركة الصور والفيديوهات، مما يهدد مصداقية الفضاء العام. وانتقد غياب سياسة رقمية شمولية، حيث تعتمد المقاربة الحالية على الزجر الأمني بدل الوقاية والتربية، مما يحد من فعاليتها في حماية الحقوق وتعزيز المسؤولية.
حلول مقترحة: نحو سياسة رقمية وطنية
لمعالجة هذه التحديات، اقترح الفريق الاشتراكي حزمة إجراءات تجمع بين الأبعاد التربوية، التشريعية، والمؤسساتية. أولًا، دعا إلى إدماج التربية الرقمية في المناهج التعليمية منذ السنوات الأولى، لتعزيز الوعي النقدي وتجنب مخاطر التنمر الرقمي والتضليل. ثانيًا، اقترح إعادة صياغة ميثاق وطني للأخلاقيات الرقمية بالشراكة مع الفاعلين، لتوجيه السلوك في الفضاء الرقمي. ثالثًا، طالب بتطوير منصات رسمية للتبليغ عن المحتويات المسيئة ودعم الضحايا قانونيًا ونفسيًا.
كما دعا إلى إحداث مرصد وطني للرصد الرقمي يتتبع الحملات المضللة ويصدر تقارير دقيقة، وتشجيع إنتاج محتوى رقمي هادف يروج لقيم الحوار والتسامح. هذه الإجراءات، وفق التدخل، يمكن أن تحول وسائل التواصل الاجتماعي من مصدر تهديد إلى أداة للبناء والتواصل الهادف، ضمن رؤية ديمقراطية تحمي الحريات دون المساس بها.
فرصة تاريخية لتجديد العقد الاجتماعي
في ختام تدخله، شدد الدكتور اعنان على أن اللحظة الرقمية تمثل فرصة تاريخية لتحديث البنيات الديمقراطية وإدماج فئات كانت خارج دائرة التأثير. ودعا إلى بناء عقد اجتماعي رقمي ديمقراطي تشاركي يضع المواطن في صلب السياسات العمومية، مع إعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع عبر مقاربة حقوقية توازن بين الحرية والمسؤولية. وأشاد بالنجاحات الثقافية الأخيرة، مثل المعرض الدولي، كدليل على تعطش المغاربة للمعرفة، داعيًا إلى استثمار هذا الحماس في تعزيز فضاء عام ديمقراطي.
تحليل: بين الطموح والواقع
يبرز التدخل رؤية طموحة لتحديث المنظومة الإعلامية والرقمية في المغرب، لكن التحدي يكمن في ترجمة هذه المقترحات إلى سياسات فعلية. فالنقاشات حول مراجعة مدونة الصحافة أو إصلاح الإعلام العمومي لا تزال عالقة في مراحل مبكرة، كما تشير المصادر إلى غياب تقدم ملموس. كذلك، تتطلب السياسة الرقمية الوطنية إرادة سياسية قوية وتنسيقًا بين القطاعات، خاصة في ظل التحديات المتسارعة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي والجرائم الإلكترونية.
ومع ذلك، يعكس هذا التدخل وعيًا عميقًا بأهمية التوازن بين الحرية والمسؤولية، ويضع أسسًا لنقاش وطني حول مستقبل الفضاء الرقمي. فهل ستتمكن المؤسسات من استثمار هذه اللحظة لتجديد العقد الاجتماعي؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة، مع استمرار الضغط من المعارضة والمجتمع المدني لتحقيق إصلاحات ملموسة.