العقوبات البديلة في المغرب.. نقلة نوعية نحو سياسة عقابية إنسانية وفعالة

في إطار سعي المغرب إلى تحديث منظومته القضائية وتعزيز السياسة العقابية المعاصرة، أكد المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج، محمد صالح التامك، خلال افتتاح يومين دراسيين بالهرهورة يوم الأربعاء 7 ماي 2025، أن العقوبات البديلة تحتل مكانة مركزية في تنفيذ السياسة العقابية الحديثة. هذه الفعالية، التي نظمتها رئاسة النيابة العامة بالشراكة مع مجلس أوروبا وبدعم من المندوبية العامة لإدارة السجون، تسلط الضوء على القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، والذي يُعد نقلة نوعية في مسار العدالة الجنائية بالمملكة.
العقوبات البديلة: إصلاح بأسلوب إنساني
أوضح السيد التامك أن العقوبات البديلة لا تمثل تساهلاً مع الجريمة أو إفلاتًا من العقاب، بل هي نمط جديد من العقوبات يهدف إلى تحقيق أهداف إصلاحية وتأهيلية بأسلوب يجمع بين الإنسانية والفعالية. فبدلاً من الاعتماد الكلي على العقوبات السالبة للحرية، تقدم هذه العقوبات، مثل الخدمة العامة، التتبع الإلكتروني، والغرامات اليومية، نهجًا مرنًا يشجع الجانحين على مراجعة سلوكياتهم والاندماج الإيجابي في المجتمع. ووفقًا لتقرير صادر عن مجلس أوروبا عام 2023، أظهرت العقوبات البديلة في دول مثل هولندا والسويد انخفاضًا في معدلات العودة إلى الجريمة بنسبة 20% مقارنة بالسجن التقليدي، مما يبرز فعاليتها في تحقيق العدالة التصالحية.
القانون رقم 43.22، الذي سيبدأ تنفيذه في 22 غشت 2025، يُعد إطارًا تشريعيًا متقدمًا يعكس رؤية المغرب في مواكبة أفضل الممارسات الدولية. فقد أناط هذا القانون بالمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج مسؤولية تتبع تنفيذ العقوبات البديلة، مع اشتراط إصدار نصوص تنظيمية تحدد آليات التطبيق، وتوفير الوسائل اللازمة لهذه المهمة. وفي هذا السياق، أعدت المندوبية ملفًا شاملًا يتضمن تصورات حول الحاجيات اللوجستية والبشرية، بهدف تهيئة الأرضية الملائمة لتفعيل القانون.
تحديات التنفيذ وأهمية التنسيق
أشار التامك إلى أن نجاح هذا الورش الإصلاحي يعتمد على التنسيق الفعال بين مختلف الجهات المعنية، بما في ذلك رئاسة النيابة العامة، المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وزارتي العدل والداخلية، والمندوبية العامة. هذا التنسيق يتطلب مقاربة تدريجية في التنفيذ، مع تقييم دقيق للمخاطر المحتملة لتفادي الإخفاقات التي شهدتها تجارب دول أخرى. على سبيل المثال، واجهت بعض الدول الأوروبية تحديات في تطبيق الأساور الإلكترونية بسبب نقص التدريب والموارد، وهو ما يسعى المغرب إلى تجنبه من خلال التخطيط المسبق.
كما شدد التامك على ضرورة إجراء تقييمات دورية وشاملة بعد دخول القانون حيز التنفيذ، لاستخلاص الدروس وتطوير الأداء. وفي هذا الإطار، أكد التزام المندوبية بتعبئة كافة الإمكانيات المتاحة، ومضاعفة الجهود لضمان تنزيل القانون بنجاح، وفقًا للرؤية الملكية السديدة لجلالة الملك محمد السادس، التي تركز على تعزيز العدالة الاجتماعية والإنسانية.
اليومان الدراسيان: منصة لتبادل الخبرات
تناولت الفعالية، التي شهدت مشاركة خبراء من مجلس أوروبا وممثلين عن الجهات القضائية والإدارية المغربية، مواضيع حيوية مثل الإطار القانوني للعقوبات البديلة، دور الأجهزة القضائية والتنفيذية في تطبيق القانون 43.22، وسبل التنسيق بين المتدخلين. كما استعرضت التجارب الأوروبية الناجحة، مثل بريطانيا التي نفذت برامج الخدمة العامة بنجاح، حيث أسهمت في إعادة تأهيل 60% من المحكوم عليهم وفقًا لتقرير صادر عن وزارة العدل البريطانية عام 2022.
تهدف هذه الجلسات إلى تعريف القضاة بمقتضيات القانون الجديد، وتزويدهم بالأدوات اللازمة لتطبيقه بشكل عادل وسليم. كما تسعى إلى تعزيز قدرات قضاة النيابة العامة من خلال تكوين مستمر، يمكنهم من التعامل مع أصناف العقوبات البديلة، مثل العمل للمنفعة العامة والمراقبة الإلكترونية، وضمان متابعة تنفيذها بفعالية.
رؤية قانونية إصلاحية
يُعد القانون رقم 43.22 خطوة جريئة في مسار تحديث السياسة العقابية المغربية، حيث يعكس التزام المملكة بمواكبة التوجهات الدولية نحو عدالة تصالحية. ووفقًا لتقرير الأمم المتحدة حول العدالة الجنائية لعام 2024، فإن الدول التي اعتمدت العقوبات البديلة شهدت تحسنًا في معدلات إعادة الإدماج الاجتماعي بنسبة 25%، مع تقليص التكاليف المرتبطة بالسجون بنسبة 15%. في المغرب، يتوقع أن يساهم هذا القانون في تخفيف الاكتظاظ في السجون، الذي بلغ معدله 190% في بعض المؤسسات السجنية وفق إحصائيات المندوبية لعام 2024، مع تعزيز فرص إعادة تأهيل الجانحين.
إن نجاح هذا الورش يتطلب تعاونًا وثيقًا بين السلطات القضائية والإدارية، مع توفير التدريب اللازم للأطر المكلفة بالتنفيذ، وتخصيص موارد كافية لضمان الاستدامة. من خلال هذا القانون، يؤكد المغرب التزامه ببناء منظومة عدلية إنسانية، تجمع بين تحقيق العدالة وإعادة تأهيل الجانحين، في إطار رؤية ملكية تهدف إلى تعزيز المجتمع وصون كرامة أفراده.