مسرح رياض السلطان: أيقونة طنجة الثقافية تحتفي بالإبداع المتوسطي في ربيع الجكرندا

في قلب مدينة طنجة، حيث تلتقي رياح المحيط الأطلسي بعبق التاريخ المتوسطي، يقف مسرح رياض السلطان كمنارة ثقافية تنبض بالحياة والإبداع. هذا الصرح، الذي تأسس كمساحة للحوار الفني والإنساني، يستعد في مايو 2025 لاستضافة النسخة الثانية من “ربيع الجكرندا للمسرح المتوسطي”، وهي تظاهرة فنية تجمع بين الأصالة والحداثة، تحتفي بالتعددية الثقافية، وتسعى لإعادة صياغة العلاقة بين الفن والمجتمع. في هذا المقال، نأخذكم في جولة عبر تاريخ هذا المسرح العريق وبرنامج تظاهرته المتوسطية، التي تجسد روح الإبداع والإنسانية.
مسرح رياض السلطان: من التاريخ إلى الحاضر
تأسس مسرح رياض السلطان كجزء من النسيج الثقافي لطنجة، المدينة التي كانت على مر العصور ملتقى الحضارات. في القرن العشرين، شهدت طنجة ازدهارًا فنيًا بفضل موقعها الاستراتيجي، حيث استقطبت كتابًا وفنانين مثل بول بولز وجان جينيه، اللذين وجدا فيها مصدر إلهام لأعمالهما. مستلهمًا هذا الإرث، تحوّل مسرح رياض السلطان إلى فضاء يعكس هذا التاريخ المتنوع، مقدمًا منصة للفنون الحية التي تمزج بين التقاليد المغربية والتأثيرات المتوسطية.
اليوم، يُعد المسرح مركزًا للإبداع، يجمع بين المسرحيات الكلاسيكية، العروض المعاصرة، والورش التعليمية التي تستهدف الشباب والأطفال. إنه ليس مجرد مساحة للعروض، بل مختبر ثقافي يسعى لتعزيز الحوار بين الثقافات، مستلهمًا من روح طنجة كمدينة مفتوحة على العالم.
ربيع الجكرندا: احتفاء بالفن المتوسطي
تحت شعار “التنوع والإبداع”، تنطلق فعاليات “ربيع الجكرندا للمسرح المتوسطي” في مايو 2025، مقدمةً برنامجًا غنيًا يمتد على مدار الشهر، يشمل عروضًا مسرحية، حفلات موسيقية، ورشات عمل، وندوات فكرية. التظاهرة، التي تحمل اسم شجرة الجكرندا التي تزيّن شوارع طنجة بأزهارها البنفسجية في الربيع، تهدف إلى الاحتفاء بالفنون الحية كوسيلة للتعبير عن هموم الإنسان وأحلامه، مع التركيز على الروابط الثقافية التي تجمع شعوب المتوسط.
افتتاح بقوة مع “أح وبردات”
يبدأ البرنامج يوم 1 مايو بعرض “أح وبردات”، وهو عمل مسرحي من إخراج محمود الشاهدي وكتابة أحمد السبياع. يستكشف العرض، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، تعقيدات العلاقات البشرية، مركزًا على ديناميكيات العلاقة بين الرجل والمرأة. من خلال مشاهد يومية، يكشف العمل عن تناقضات النفس البشرية، مقدمًا تأملات عميقة حول صعوبة التفاهم والتواصل.
فكاهة ونقد اجتماعي مع “ماشي أنا!”
في اليوم التالي، 2 مايو، يقدم الفنان حسن البوشاني عرض “ماشي أنا!”، وهو “وان مان شو” يمزج بين الفكاهة الساخرة والنقد الاجتماعي. يأخذ البوشاني الجمهور في رحلة عبر قضايا اجتماعية معاصرة، مستخدمًا أسلوبه الفريد لتحفيز التفكير النقدي وتعزيز الوعي بالفن الساخر.
“عن بعد”: مزيج الواقع والافتراض
يوم 3 مايو، يقدم عرض “عن بعد”، من إخراج وكتابة فريق من المبدعين الشباب، تجربة مسرحية مبتكرة تستكشف العزلة خلال الحجر الصحي. يمزج العرض بين الأداء الحي والإبداع الرقمي، مقدمًا قصصًا متقاطعة تعكس التحديات النفسية والاجتماعية التي واجهها الأفراد خلال الجائحة.
موسيقى ورقص مع “فوق الحبال”
في 8 مايو، يقدم الفنانان جواو ليما وأليسيا سوتو عرض “فوق الحبال”، وهو مزيج من الموسيقى الحية للغيتار والرقص المعاصر. يتميز العرض بتفاعله مع الجمهور، الذي يصبح جزءًا من التجربة، في رحلة عاطفية لاستكشاف الذات وفك العقد الداخلية.
ندوات فكرية وفن رقمي
في 9 مايو، تستضيف التظاهرة ندوة بعنوان “رؤية الفنان في عصر الرقمية”، إلى جانب معرض فني يستكشف تأثير التكنولوجيا على الإبداع. يناقش الفنانون والخبراء كيف أعادت الرقمنة تشكيل المشهد الفني، من الرسم الرقمي إلى العروض التفاعلية.
عودة إلى الجذور مع “لحلايقية شو”
يوم 14 مايو، تستعيد فرقة “نجوم الحكي” أجواء الحلقة المغربية التقليدية في عرض “لحلايقية شو”. يمزج العرض بين السرد القصصي، الموسيقى، والرقص، مقدمًا رؤية شبابية للحكايات الشعبية التي شكلت الثقافة المغربية، في تجربة تجمع بين الحنين والحداثة.
تكريم جان جينيه ومناقشات مع مبدعين
في 16 مايو، تستضيف التظاهرة ندوة علمية بعنوان “جان جينيه: الصوت المتعدد في ملتقى المتخيلات المتوسطية”، تكريمًا للكاتب الفرنسي الذي جسّد في أعماله تلاقي الثقافات. يلي الندوة لقاء مع المخرج المسرحي حسن كوياطي، الذي يشارك تجربته مع المخرج العالمي بيتر بروك ورؤيته للمسرح المعاصر.
“تُنسى، كأنك لم تكن” و”الوكالة الوطنية للسعادة”
في 17 مايو، يقدم الفنان فوزي بنسعيدي عرضًا فرديًا بعنوان “تُنسى، كأنك لم تكن”، يمزج بين الحنين والسخرية ليروي قصصًا عن الحب والحرب. وفي 21 مايو، يقدم إدريس أكسيكس قراءة ممسرحة لنصه “الوكالة الوطنية للسعادة”، وهو عمل ساخر ينتقد مفهوم السعادة المعلبة من خلال قصة امرأة بسيطة تتحدى نظامًا بيروقراطيًا.
حفل موسيقي مع رفيدة
في 23 مايو، تحتفل الفنانة رفيدة بنجاح ألبومها لعام 2023، مقدمة أغنية جديدة تدعو إلى تقبل الذات. بكلمات بالدارجة والإنجليزية، توجه رسالة ملهمة لكل من شعر بالتهميش، مؤكدة على قوة الفردية.
ختام بمزيج من التاريخ والإبداع
تختتم التظاهرة في 31 مايو بلقاء مع عبد الواحد عوزوي حول كتابه “وجوه عرفتها في المسرح والحياة”، يليه عرض “من نافذتي الرحمية أحييك أيتها البشرية”، وهو عمل يروي قصة مؤلمة عن الهجرة غير النظامية، معبرًا عن الأمل والصمود.
رسالة المسرح: الفن لغة الإنسانية
“ربيع الجكرندا للمسرح المتوسطي” ليس مجرد مهرجان فني، بل دعوة للتأمل في الإنسانية من خلال الفن. من خلال عروضه المتنوعة، يعكس مسرح رياض السلطان روح طنجة كمدينة للتلاقي، حيث تتحاور الثقافات وتتجدد الأفكار. إنه احتفاء بالفن كجسر يربط بين الشعوب، وكلغة تعبر عن الأحلام والآلام، مقدمًا رسالة خالدة: الفن هو صوت الإنسان الذي يصنع المعنى ويبني المستقبل.
كاتب المقال: صحفي متخصص في الشؤون الثقافية والفنية
البريد الإلكتروني للتواصل: gil24.ma@gmail.com


