المعرض الدولي للكتاب 2025: عبدالله ساعف … الأدب جسر بين التاريخ والأمل

عبدالعالي الجابري – وجدة 25 ابريل 2025
في إطار فعاليات الدورة الثلاثين للمعرض الدولي للنشر والكتاب، الذي أقيم بالرباط من 18 إلى 28 أبريل 2025، نظم لقاء فكري بارز حول الأعمال الأدبية للأستاذ عبد الله ساعف، الأكاديمي والسياسي والروائي المغربي البارز.
اللقاء، الذي استلهمت بعض تفاصيله من مناقشة بثتها مباشرة الاستاذة خديجة بنطالب عبر فيديو على صفحة المركز، تناول مسار ساعف ككاتب روائي، مع التركيز على روايته “عودة إلى حلب“، واستعراض أبرز سمات أعماله التي تمزج بين التاريخ، السياسة، والخيال.
في هذا المقال، احاول تقديم رؤية لمجريات هذا اللقاء، مستعرضا أبعاد المناقشة، وسياقها الفكري، ودلالاتها في إطار الواقع المغربي والعربي.
سياق اللقاء: ساعف بين الأكاديمية والإبداع
عبد الله ساعف ليس مجرد أستاذ جامعي في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أو سياسي سابق شغل منصب وزير التعليم الوطني (1998-2000) وعضو لجنة مراجعة الدستور عام 2011، بل هو أيضاً كاتب روائي ينتمي إلى تيار فكري يساري، يعكس في أعماله تجربته الطويلة كمثقف وناشط.
اللقاء المنظم في المعرض جاء ليسلط الضوء على هذا البعد الإبداعي، الذي يمثل امتداداً لمسيرته الأكاديمية والسياسية.
فقد برز ساعف كجزء من موجة من الأكاديميين المغاربة في العلوم السياسية، مثل سعيد بن سعيد العلوي وعبد الحي مودن، الذين اتجهوا إلى الكتابة الروائية لاستكشاف أبعاد إنسانية وسياسية لا يتيحها النص الأكاديمي.
ما يميز ساعف عن أقرانه هو اختياره الكتابة باللغة الفرنسية، على عكس غالبية هؤلاء الأكاديميين الذين كتبوا بالعربية.
في اللقاء، أوضح ساعف أن هذا الاختيار يعود إلى مساره التعليمي الذي كان بالفرنسية، مما جعلها أداة تعبير أكثر سلاسة بالنسبة إليه، رغم إتقانه للعربية.
وأشار إلى أن ضغط الوقت وكثرة التزاماته حالت دون تحقيق نيته بترجمة أعماله إلى العربية، مما يطرح تساؤلات حول إمكانية وصول هذه الأعمال إلى جمهور أوسع في المغرب والعالم العربي.
سمات الأعمال الروائية لساعف: الثنائية المكانية والتاريخية
ركز اللقاء على السمات المميزة لروايات ساعف، التي تتسم بثنائية مكانية وتاريخية تجعلها جسراً بين الواقع والخيال.
أولاً، تتميز أعماله بالتناوب بين فضاءين جغرافيين: المغرب كفضاء محلي، وفضاء خارجي يتنوع بين فيتنام (“ما عدت هنا”)، مالي أو السودان (“الزنوج، لا يمكنكم تصور ذلك”)، فرنسا (“عبيد الله”)، وسوريا (“عودة إلى حلب”). هذه الثنائية ليست مجرد خيار أسلوبي، بل تعكس رؤية ساعف للعلاقة بين المحلي والعالمي، حيث يتشابك مصير المغرب مع التطورات الإقليمية والدولية.
ثانياً، تنغمس روايات ساعف في سياقات تاريخية محددة، تعكس لحظات مفصلية في التاريخ المغربي والعالمي.
ففي “ما عدت هنا”، يستحضر ساعف حرب الإندوشين، مستلهماً تجربة المقاتلين المغاربة الذين جندتهم فرنسا، والدعوة التي وجهها هو شي مينه لهم للانضمام إلى المقاومة. أما “عبيد الله” فتغوص في “سنوات الرصاص” بالمغرب، تلك الفترة الممتدة بين الستينيات والثمانينيات، التي شهدت قمعاً سياسياً للمعارضين.
وفي “الزنوج، لا يمكنكم تصور ذلك”، يستعيد ساعف العلاقات التاريخية بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء في القرن الخامس عشر.
أما “عودة إلى حلب”، فتتناول تداعيات الربيع العربي وصعود الحركات الجهادية، مع التركيز على مغاربة انضموا إلى القتال في سوريا.
هذه الثنائية المكانية والتاريخية جعلت روايات ساعف منصة لاستكشاف قضايا الهوية، الانتماء، والصراع السياسي، مع الاحتفاظ بطابع سردي يمزج بين الواقعية والتخييل.
في اللقاء، أكد ساعف أن الرواية تتيح له حرية تعبير لا يوفرها النص الأكاديمي، مما يسمح له بمعالجة قضايا اجتماعية وسياسية معقدة بطريقة تثير التفكير وتلامس وجدان القارئ.
“عودة إلى حلب”: رحلة في زمن الإخفاق والأمل
شكلت رواية “عودة إلى حلب” محور النقاش في اللقاء، حيث تم استعراض قصة حسين، بطل الرواية، وهو أستاذ جامعي وناشط يساري سابق يعاني من فراغ وجودي بعد انهيار الحزب الذي كان ينتمي إليه.
تمتد أحداث الرواية من المغرب إلى سوريا، مروراً بمحطات تاريخية تبدأ من الستينيات، مع أحداث الاحتجاجات الطلابية عام 1965، وصولاً إلى الحرب الأهلية السورية بعد الربيع العربي. حسين، الذي طرد من مؤسسته التعليمية بسبب نشاطه السياسي، يسافر إلى دمشق ثم حلب مع صديقه زكي، حيث يكتشفان الاضطرابات السياسية ويصادفان شخصية الفقيه البصري، الثائر المناهض للمخزن.
في الرواية، يعود زكي لاحقاً إلى المغرب، لكن ابنه يوسف يسلك طريقاً مغايراً، حيث ينضم إلى الجهاد في سوريا ويُسجن لدى الأكراد. تتدخل أرملة زكي لتطلب من حسين مساعدتها في تحرير ابنها، مما يدفع حسين للسفر إلى سوريا بحثاً عن يوسف.
هذه الرحلة ليست مجرد مغامرة جغرافية، بل تأمل عميق في مسار اليسار المغربي، الذي واجه تحديات داخلية (كتفكك الأحزاب) وخارجية (كصعود التيارات الدينية المتطرفة).
في اللقاء، أبرز ساعف أن “عودة إلى حلب” تعكس فكرة الإخفاق السياسي، سواء على مستوى الأفراد أو التنظيمات. انحلال الحزب اليساري الذي كان ينتمي إليه حسين يعكس تجربة ساعف الشخصية، حيث أشار إلى تفكك الحزب الذي ساهم في تأسيسه. كما أن صعود التيارات الدينية المتطرفة، التي حلت محل الآمال التقدمية، يمثل إخفاقاً لجيل حسين الذي آمن بتغيير جذري.
ومع ذلك، يختتم الرواية برسالة أمل مستلهمة من الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ ومفهومه عن “الأمل”، حيث يطرح ساعف سؤالاً محورياً: هل يمكن للمرء أن يعيد الكرة ويخوض نفس المعركة رغم معرفة احتمال الهزيمة؟ الإجابة، كما أكد في اللقاء، هي “نعم”، مما يعكس إيماناً بقيمة النضال بغض النظر عن النتائج.
“سر الشارع الكبير”: مقاومة وسجن
لم يقتصر اللقاء على “عودة إلى حلب”، بل تناول أيضاً رواية “سر الشارع الكبير”، التي تركز على تجربة السجن السياسي خلال سنوات الرصاص. بطل الرواية، غابرييل، هو ناشط سياسي يساري يرفض طلب العفو من الملك، على عكس بعض رفاقه، مما يعكس مقاومة مبدئية ضد النظام.
تتناول الرواية علاقته بالسجناء الآخرين والسجانين، وتبرز دعماً تلقاه من شخصية الفقيه البصري، الثائر المنفي الذي حاول زعزعة النظام من باريس. هذه الشخصية، رغم عدم ذكر اسمها صراحة في الرواية، تُعد رمزاً للمعارضة اليسارية الراديكالية في المغرب ما بعد الاستقلال.
في النقاش، أشار ساعف إلى أن هذه الرواية، مثل غيرها من أعماله، تستلهم التاريخ الاجتماعي المغربي، حيث يعبر أبطالها عن تجارب أجيال عاشت صراعات سياسية واجتماعية حادة. كما أكد أن الرواية تمثل فضاءً لاستكشاف أفكار لا يمكن تناولها في النصوص الأكاديمية، مثل التوترات بين الفرد والسلطة، والعلاقات الإنسانية في ظل القمع.
دلالات اللقاء: الأدب كمرآة للواقع
يمثل هذا اللقاء محطة هامة في سياق المعرض الدولي للنشر والكتاب، الذي يعد أحد أبرز التظاهرات الثقافية في المغرب. فقد جاء ليسلط الضوء على كاتب يجمع بين الأكاديمية، النضال السياسي، والإبداع الأدبي، مما يعكس تنوع المشهد الثقافي المغربي. من خلال مناقشة أعمال ساعف، قدم اللقاء قراءة نقدية لتاريخ المغرب الحديث، من سنوات الرصاص إلى تداعيات الربيع العربي، مع التركيز على دور اليسار في هذه المراحل.
الإيجابيات:
- تعميق النقاش حول الأدب والسياسة: ساهم اللقاء في إبراز الرواية كأداة لفهم التحولات السياسية والاجتماعية، خاصة من خلال تجربة ساعف التي تجمع بين النظرية والممارسة.
- إبراز الثنائية المكانية: طرح اللقاء فكرة الربط بين المغرب والعالم كإطار لفهم التحديات المحلية في سياق عالمي، وهي رؤية قلما تُناقش في الأدب المغربي.
- إحياء مفهوم الأمل: استحضار فلسفة إرنست بلوخ أضاف بعداً فلسفياً عميقاً، مؤكداً على إمكانية النضال رغم الإخفاقات.
التحديات:
- محدودية اللغة الفرنسية: اختيار ساعف الكتابة بالفرنسية، رغم مبرراته، قد يحد من وصول أعماله إلى القراء العرب، خاصة الشباب الذين قد يجدون صعوبة في التعامل مع النصوص الفرنسية.
- غياب نقاش التفاعل مع الجمهور: لم تتضح من المعلومات المتوفرة مدى إشراك الجمهور في النقاش، مما قد يقلل من تأثير اللقاء على الشرائح الشابة.
- ضرورة التوثيق: ركز اللقاء على الجانب الأدبي، لكنه لم يتطرق إلى كيفية توثيق هذه التجارب للأجيال القادمة، خاصة في ظل دعوات لتطوير الذاكرة الثقافية المغربية.
الأبعاد الثقافية والسياسية
يحمل اللقاء دلالات عميقة في سياق المغرب المعاصر.
أولاً، يعكس التزام المعرض الدولي للكتاب بتعزيز الحوار الفكري، حيث شكل منصة لمناقشة قضايا حساسة مثل سنوات الرصاص والربيع العربي.
ثانياً، يبرز دور الأدب كمرآة للتاريخ، حيث تقدم روايات ساعف قراءة نقدية لمسار اليسار المغربي، من آماله الكبرى في الستينيات إلى إخفاقاته في مواجهة التيارات الدينية.
ثالثاً، يطرح اللقاء تساؤلات حول مستقبل اليسار في المغرب، خاصة في ظل تراجع تأثيره مقارنة بالتيارات الأخرى.
كما أن استحضار شخصية الفقيه البصري، رمز المعارضة اليسارية، يعيد فتح النقاش حول إرث الحركات الثورية في المغرب، ومدى إمكانية استلهامها في السياق الحالي. وفي الوقت نفسه، فإن إشارة ساعف إلى مفهوم الأمل عند بلوخ تعكس رؤية متفائلة، تدعو إلى استمرار النضال رغم التحديات، وهي رسالة ذات دلالة خاصة في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها العالم العربي.
خاتمة
لقاء عبد الله ساعف في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط لم يكن مجرد نقاش أدبي، بل كان جسرًا بين التاريخ، السياسة، والإبداع.
من خلال مناقشة روايتي “عودة إلى حلب” و”سر الشارع الكبير”، قدم اللقاء تأملاً عميقاً في تجربة اليسار المغربي، مع التركيز على إخفاقاته وآفاقه. كما أبرز الدور الفريد للرواية كفضاء للتعبير عن قضايا لا يمكن تناولها في النصوص الأكاديمية، مما يعزز مكانة ساعف ككاتب يجمع بين العمق الفكري والحساسية الإنسانية.
ورغم التحديات المرتبطة بلغة الكتابة وإشراك الجمهور، فإن اللقاء نجح في إبراز أهمية الأدب كأداة لفهم التاريخ والتطلع إلى المستقبل. إن استحضار مفهوم الأمل عند إرنست بلوخ يعكس رسالة متفائلة، تدعو إلى مواصلة النضال رغم الإخفاقات، مما يجعل هذا اللقاء محطة ثقافية وسياسية تستحق التأمل والمتابعة.
لتعزيز تأثير مثل هذه المبادرات، يُوصى بترجمة أعمال ساعف إلى العربية، وتنظيم نقاشات تشمل الشباب والجمهور العريض، لضمان وصول هذه الأفكار إلى أكبر شريحة ممكنة.
المصادر:
- تسجيل فيديو حول مناقشة أعمال عبد الله ساعف.
- تقارير إعلامية حول المعرض الدولي للنشر والكتاب 2025 (hespress.com).
- مواقع أكاديمية وثقافية تتعلق بمسار عبد الله ساعف (saaf.cerss.org).