هل يصبح رؤساء التحرير خصوما لملاك وسائل الإعلام؟

محمد مستعد

يشهد المناخ العام لممارسة مهنة الصحافة ولحرية الإعلام منذ بضع سنوات تراجعا يثير التساؤل والقلق ليس فقط في العالم العربي، ولكن حتى على مستوى عدة مناطق عبر العالم حسب ما تؤكده تقارير دولية متواترة. حتى التجارب المتقدمة في أوروبا التي ولدت في حضنها الصحافة الحديثة وتطورت منذ ثلاثة قرون تعرف بدورها تهديدات تمس استقلاليتها وأدوارها السياسية والمجتمعية.

مصدر هذه التراجعات يعود إلى عدة عوامل، وإلى تحولات تشهدها أوروبا مع صعود تيارات الشعبوية والعنصرية وجشع الليبرالية. وإذا كانت الأوضاع متباينة، ومنسوب التراجعات ليس متماثلا في جميع هذه الدول، فإن الأمر يثير القلق عموما في حوالي 20 بلدا من مجموع 28 بلدا يشكل الاتحاد الأوروبي. ولهذا قررت الآلة القانونية للاتحاد أن تتحرك لحماية حرية الصحافة واستقلاليتها. حيث تقدمت اللجنة الأوروبية بمقترح قانون يحمل اسم “مقترح قانون فريدوم أكت”(EMFA) Media Fredom Act صدر في صيغته الأولى في سبتمبر/أيلول الماضي، لكنه سيحتاج إلى بعض الوقت ليدخل حيز التطبيق بعد المرور من مسطرة التشريع المعروفة، ودراسته من قبل الحكومات، ثم التصويت عليه في البرلمان الأوروبي.

كيف هو حال الحريات في هنغاريا وبولندا؟

تشير أصابع الاتهام بشكل خاص إلى دول مثل هنغاريا وبولندا اللتان ينزع نظامهما نحو تقييد متزايد للحريات العامة والصحفية؛ فأصبحت تنصب عليهما انتقادات تقارير المنظمات الصحفية والحقوقية الدولية بشكل متزايد. وسبق لهنغاريا أن تعرضت لمؤاخذات من قبل الاتحاد الأوروبي لعدم احترامها للقوانين في عدة مجالات (حريات فردية، حرية الانتخابات…)، وهي مهددة حاليا بالحرمان من 7.5 مليارات يورو من الدعم المالي الذي يمنحه الاتحاد بسبب اتهامها بعدم النجاعة في محاربة الرشوة. كما يتم توجيه النقد إلى جمهوريتي التشيك وسلوفانيا، وهو ما يعني أن التعدي على حرية الصحافة وتعدديتها هو ظاهرة تمس أكثر ما كان يعرف بدول أوروبا الشرقية.

وتلخص نائبة رئيسة اللجنة الأوروبية المكلفة بالقيم والشفافية فيرا جوروفا هذا الوضع العام دون أن تذكر أسماء الدول لاعتبارات دبلوماسية، معتبرة “أن وسائل الإعلام صارت تتعرض لعدد من الضغوطات خلال السنوات الأخيرة، وقد حان الوقت للتحرك. علينا وضع مبادئ واضحة وهي: لا ينبغي أن يتعرض أي صحفي للتجسس بسبب عمله، ولا ينبغي أن يتحول أي إعلام عمومي إلى وسيلة للدعاية” (1).

هل يصبح رئيس التحرير خصما لمالك الجريدة؟

الفصل السادس من “مقترح قانون فريدوم أكت” له طابع جوهري ويثير الجدل من الآن حيث يعطي سلطة حاسمة لرئيس التحرير ليتخذ، بشكل فردي، قرارات تتعلق بالخط التحريري للجريدة لحماية استقلالية هيئة التحرير ولضمان تعددية الآراء. وعموما يفرض “مقترح قانون فريدوم أكت” إجراءات عدة لمراقبة احتكار الشركات الكبرى لوسائل الإعلام، ولفرض المزيد من الشفافية حول من يملك القنوات التلفزيونية مثلا…  وهي كلها إجراءات قانونية تبدو قوية الأثر مهنيا وسياسيا ومن شأنها أن تخلق ثورة قانونية في مواثيق التحرير الداخلية وآليات التقنين التي تضعها وسائل الإعلام المهنية والمنظمة في أوروبا. ولهذا برز تباين في ردود الفعل يعكس الرهانات التي كانت الصحافة دائما محورها باعتبارها سلطة قوية يتطلع كل الفاعلين إلى التحكم فيها، مما يخلق تفاعلات وتجاذبات بين ما هو صحفي – مهني و ما هو مال وسلطة.

منظمة “مراسلون بلا حدود” رحبت بوضوح بهذه المبادرة القانونية، واعتبرت أنها تشكل تقدما مهما لحماية الديمقراطية ودولة القانون. كما أكد أمين عام فدرالية نقابات الصحفيين الأوروبيين ريكاردو غوتييريس أن هذا المقترح يستجيب لانتظارات كبيرة لقطاع الصحافة (2)، إلا أن جمعية مالكي الصحف انتقدت المقترح وخاصة الفصل السادس منه، حيث اعتبر جان بيير دي كراول رئيس الجمعية الأوروبية لناشري الصحف ENAP أن العمل على “ضمان الحرية لرؤساء التحرير ليتخذوا – بشكل فردي – أي قرار تحريري يعني حرمان الناشرين من مسؤوليتهم القانونية والاقتصادية وجعل الصحفيين يتواجهون مع ناشريهم. وهو أمر ليس له معنى”.

ومن بين المقتضيات الأساسية التي تثير الجدل أيضا ما جاء في الفصل السابع عشر الذي يلزم المنصات الرقمية (مثل فيسبوك) بضرورة إخبار الصحف عندما تقوم بسحب ما تنشره من أخبار منقولة عن تلك الصحف، وهي مقتضيات تأتي لتكمل “قانون الخدمات الرقمية” Digital Service Act الصادر عن الاتحاد الأوروبي في يونيو/ حزيران 2022 الذي يجبر تلك المنصات على احترام حرية التعبير والتعددية ويفرض عليها عددا من القواعد الزجرية لمحاربة الأخبار الزائفة وخطابات العنف والعنصرية (3). وينتظر أن تقترح اللجنة الأوروبية لاحقا معايير لتحديد ما المقصود بوسيلة للإعلام؟ وما معنى الاستقلالية عن الدولة؟ وكذا تحديد معايير الخضوع للتقنين. وغير ذلك.

إشكالية تطبيق القوانين

إصدار القوانين يعتبر مرحلة أولية فقط، أما الحكم على نجاعتها فيتطلب، طبعا، نفاذها على أرض الواقع وتطبيقها الفعلي. وتجد بعض القوانين الأوروبية صعوبات أحيانا في التطبيق في بعض المجالات لاعتبارات ظرفية كما يحصل – مثلا – مع القوانين المحددة لسقف التضخم خلال الأزمات المالية. ومن جانب آخر، يطرح “مقترح قانون فريدوم أكت” تحدي ملاءمته مع القوانين الوطنية المنظمة لحرية الصحافة في كل بلد على حدة. كما أن القاعدة القانونية تحتاج إلى تدقيق للإجراءات الزجرية. ولم تتضح بعد طبيعة العقوبات والغرامات التي ستفرض في حال مخالفة هذا المقترح القانوني.

والحقيقة أنه ينبغي إدراج هذه المبادرة التشريعية ضمن توجه عام للاتحاد الأوربي يقضي بإصدار قوانين لمحاربة الاحتكار ومنع استقواء شركات الإنترنت الكبرى وإجبارها على الخضوع للتقنين. وقد سبق للاتحاد أن أصدر قانونين مهمين: الأول هو “قانون الخدمات الرقمية” Digital Service Act السابق ذكره، والثاني هو “قانون السوق الرقمية” Digital Market Act المتعلق بقواعد المنافسة. وفي حال عدم احترام هذه القواعد يمكن أن تتعرض شركات الإنترنت الكبرى لغرامات تصل قيمتها إلى 6 بالمئة من رقم معاملاتها.

مجال آخر سيستهدفه التقنين وهو الإعلان في وسائل الإعلام العمومية حيث تريد اللجنة الأوروبية أن تفرض المزيد من الشفافية فيما يتعلق بكيفية منحه وتوزيعه. ويتم في هذا الإطار، مثلا، اتهام حكومة هنغاريا بتوزيع هذا الإعلان فقط على وسائل الإعلام المقربة من الحكومة. كما يجري التفكير في تقنين وضبط الإجراءات الخاصة بتشكيلة وطرق تعيين مجالس إدارة وسائل الإعلام العمومي مع استلهام تجارب بلدان أوروبا الشمالية المتقدمة في هذا المجال لتفادي مبادرات كالتي قامت بها حكومة دولة التشيك التي قامت في السنوات الأخيرة بالسيطرة على التلفزيون العمومي.

المال لمنع احتكار رجال الأعمال

كشفت دراسة سوسيولوجية واقتصادية صدرت حديثا (4) كيف أن وسائل الإعلام في فرنسا صارت تقع تدريجيا خلال السنوات الأخيرة، تحت سيطرة عدد محدود من رجال الأعمال، بحيث أن 9 من رجال الأعمال أصبحوا يملكون 90 بالمائة من وسائل الإعلام في هذا البلد. وهو تمركز رأسمالي صار يهدد التعددية في الصحافة الفرنسية نتيجة تأثير رجال أعمال مقربين من تيارات سياسية يمينية مثل فانسون بولوري. التجربة البريطانية، ورغم خصوصيتها التاريخية، تعيش أيضا ظاهرة استحواذ رجال الأعمال على وسائل الإعلام وسلطتهم المتزايدة على صناع القرار السياسي؛ فالوزير الأول البريطاني السابق طوني بلير كان – حسب شهادات من داخل حكومته – يخضع طيلة 10 سنوات من الحكم لتأثير وتوجيهات الملياردير وإمبراطور الإعلام روبرت موردوخ مالك قنوات سكاي وفوكس نيوز اليمينية الشعبوية (5).

إلى جانب إصدار القوانين، تخطط اللجنة الأوروبية لاتخاذ إجراءات أخرى لحماية تعددية واستقلالية الصحافة مثل تشديد المراقبة على عمليات بيع وشراء وسائل الإعلام وتكتلاتها، وفرض الكشف عن أسماء المالكين الحقيقيين عبر تنسيق وتوحيد القوانين المنظمة لهذا المجال في جميع دول الاتحاد. وسيتم العمل على إشراك كل هيئات تقنين قطاع الإعلام (النقابات، الجمعيات، الهيئات العليا للإعلام السمعي البصري…) وليس فقط مجالس تنظيم المنافسة الاقتصادية.

وعلى الصعيد المالي يتجه الاتحاد الأوربي نحو تقديم المزيد من الدعم لوسائل الإعلام لمواجهة الأزمة المالية التي يعرفها هذا القطاع بسب المنافسة الشرسة لشركات الإنترنت العملاقة. وسيتم في هذا الخصوص اتخاذ عدة إجراءات لتعزيز استقلالية وتعددية الصحافة مثل إطلاق مشروع لإنشاء اتحاد لوكالات الأنباء الأوروبية يضم 16 وكالة لتوحيد عملها وقدراتها في مجال تغطية الأخبار الأوروبية.

مراجع

1-   بلاغ رسمي للاتحاد الأوربي صدر في 16 سبتمبر/أيلول 2022.

2-   جريدة “لوموند” عدد 17 سبتمبر/أيلول 2022.

3-  محمد مستعد “شركات التكنولوجيا والصحافة.. الحرب مستمرة” مجلة الصحافة. عدد 22. ص 40. صيف 2022.

4-  قراءة في كتاب “الأخبار ملك عام. إعادة بناء ملكية وسائل الإعلام”، تأليف جوليا كاجي وبونوا هويي، دار النشر لوسوي، 2021. الرابط إلى المقال:

5-   “من يتحكم في وسائل الإعلام”، دراسة جماعية بعنوان: “من يحكم العالم؟ حالة العالم في2017”. تحت إشراف بيرتراند باديي ودومينيك فيدال، ص 197، منشورات لاديكوفيرت، فرنسا.

اعادة النشر بعد موافقة الكاتب

المقال منشور بموقع الجزيرة بتاريخ 9 يناير 2023

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى