هجمات “جبروت” و”الإضعاف العنيف” للإعلام المغربي: تقويض القدرة على حماية المجتمع

يمثل المشهد الإعلامي المغربي بيئة معقدة تتداخل فيها التحديات الاقتصادية والتشريعية والسياسية، مما يترك الإعلام في وضع هش. هذه الهشاشة، التي يمكن وصف جزء منها بالإضعاف “العنيف” أو الممنهج، تجعل الإعلام المغربي أقل قدرة على أداء دوره كـ “حماية داخلية” في مواجهة الهجمات الإعلامية الخارجية، مثل تلك التي شنتها “جبروت”.
“جبروت” كنموذج للحرب السيبرانية واستهداف الثقة
لم تكن هجمات “جبروت” مجرد حادث قرصنة تقني عابر، بل كانت أداة ضمن “حرب إدراك” ممنهجة. استهدفت هذه الهجمات مؤسسات وطنية حساسة في المغرب، مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الإدماج الاقتصادي، وسربت كميات كبيرة من البيانات الشخصية والمهنية. الهدف من هذه الهجمات لم يكن البيانات بحد ذاتها، بل زعزعة ثقة المواطن بقدرة الدولة على حماية بيانات مواطنيها وكفاءة المؤسسات الحكومية. وقد تزامن هذا الهجوم مع توترات جيوسياسية بين المغرب والجزائر. وقد تكون الجزائر و ايران نفسهما ادوات لمن هم وراء ذلك.
إن تحليل الكيفية التي تفاعل بها الرأي العام المغربي مع هجمات “جبروت” السيبرانية يكشف حقيقة أساسية وهي أن هذه الهجمات لم تكن بحاجة لخلق شعور بانعدام الثقة من الصفر. على العكس من ذلك، فقد استغلت بذكاء واستفادت من نقاط ضعف موجودة بالفعل في مستويات الثقة الداخلية لدى المواطن المغربي.
هذه النقاط الهشة في الثقة كانت ظاهرة تحديداً في جوانب معينة من الأداء الحكومي. فعلى سبيل المثال، أظهر استطلاع للمعهد المغربي لتحليل السياسات أن 66% من المغاربة يرون أن جهود الحكومة في مكافحة الفساد غير فعالة. كما أن 65% من العينة أعربوا عن عدم رضاهم عن الوضع الاقتصادي. هذه الأرقام تُبرز وجود “حواف هشة” في الثقة الداخلية مرتبطة مباشرة بالأداء الحكومي في الملفات الاجتماعية والاقتصادية.
وبالتالي، عندما قامت هجمات “جبروت” بتسريب بيانات حساسة لمؤسسات وطنية كبرى مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الإدماج الاقتصادي ولشخصيات نافذة في دواليب الدولة، فإن الهدف لم يكن مجرد الحصول على البيانات بحد ذاتها. بل كان الهدف الاستراتيجي هو زعزعة ثقة المواطن بقدرة الدولة على حماية بياناته وكفاءة مؤسساتها الحكومية، مما غذى خطاب الشك القائم بالفعل.
في هذا السياق، فإن نجاح أي جهاز إعلامي في أداء دوره الحيوي كـ “حماية داخلية” للمجتمع ضد الهجمات الإعلامية الخارجية وحملات التضليل يعتمد بشكل أساسي وحاسم على مدى مصداقيته ووثوقيته لدى الجمهور. فإذا كان الجمهور يشكك أصلاً في مصداقية الإعلام (سواء الرسمي أو غير الرسمي) نتيجة لتحديات داخلية مثل ضعف الجودة أو التأثر بمحتوى “المؤثرين” و”التافهين” و”المنتسبين” و”الملحقين” و”الحاصلين على لفيف العدلي يشهد لهم بالكفاءة دون ابسط تكوين او قدرات” و”الذين تسخرهم السلطات والسياسيين والقائمين على تسيير الشأن العام لتلميع صورتهم التي لا يهتم بها احد أصلا”، فإن مجرد الرد على “الأكاذيب الخارجية” لن يكون كافياً.
لأن الرد الصحيح يجب أن يستند على أساس داخلي متين من الثقة والاحترافية. وبالتالي، فإن التحدي الأكبر للإعلام المغربي لا يكمن فقط في مواجهة الأكاذيب الخارجية، بل في استعادة ثقة الجمهور في المحتوى الرقمي الجاد وتحسين جودة المحتوى المحلي بشكل عام .
إضعاف الإعلام المغربي عُنوة: آليات متداخلة
1. القوانين المجحفة والتدخل الحكومي في التنظيم الذاتي: على الرغم من أن الدستور المغربي يضمن حرية الصحافة، إلا أن الواقع العملي لا يزال مقيداً، مما انعكس على ترتيب البلاد المتدني عالمياً. وتعتبر الملاحقة القضائية للصحفيين بموجب القانون الجنائي في قضايا النشر، على الرغم من أن قانون الصحافة والنشر خالٍ من عقوبات السجن، من أبرز المخاوف المستمرة. هذا يشير إلى خيار استراتيجي من قبل الدولة للحفاظ على نفوذها على الصحفيين. وقد أدت محاولات إدخال تعديلات تنقل بعض الجرائم من قانون الصحافة إلى القانون الجنائي إلى “انتكاسات كبيرة لمآرب حرية الصحافة”.
2. كما شهدت الفترة التي تلت عام 2021 “محاولات واضحة لإدخال تشريعات تراجعية”. ومن الأمثلة على ذلك، تأميم الحكومة للجنة مؤقتة لإدارة شؤون الصحافة، ومقترحات سعت إلى استبدال الانتخابات بالتعيينات لأعضاء المجلس الوطني للصحافة. واعتبر مشروع قانون وسائل التواصل الاجتماعي لعام 2020، الذي يتضمن متطلبات الترخيص وعقوبات صارمة على المحتوى الرقمي، محاولة مباشرة لـ “كم أفواه” الأصوات النقدية وتقييد الحرية الرقمية. هذه الإجراءات تقوض استقلالية الإعلام وتخلق بيئة من الخوف والرقابة الذاتية بين الصحفيين.
3. الهشاشة الاقتصادية واستغلال الدعم: تعاني الصحافة الورقية من أزمة وجودية حادة وغير مسبوقة، مع تراجع كبير في عدد الصحف والمبيعات. هذه الهشاشة الاقتصادية تدفع المنابر الورقية إلى الاعتماد بشكل كبير على الدعم العمومي، مما قد يؤدي إلى التنازل عن الاستقلالية التحريرية. أما الإعلام الرقمي، فرغم “قفزته النوعية” في عدد المواقع، إلا أن عمالقة التكنولوجيا العالميين يسيطرون على أكثر من 80% من سوق الإعلانات الرقمية في المغرب.
4. تثير هذه الهيمنة الاقتصادية، إلى جانب نقص الشفافية في توزيع الدعم العمومي وسوق الإعلانات، مخاوف جدية بشأن إمكانية استخدامهما كأدوات للسيطرة والمحاباة. فالإعلام الضعيف اقتصادياً يكون أكثر عرضة للتأثر بالمعلنين أو الدعم الحكومي. هذا الدعم، حتى وإن كان يهدف إلى تنظيم القطاع، قد يؤدي إلى استبعاد الشركات الأصغر والمتوسطة. وهذا يعكس أن الهشاشة المالية للإعلام المغربي ليست مجرد مشكلة مؤقتة، بل هي نقطة ضعف كبيرة يمكن استغلالها للسيطرة.
النتيجة: إعلام غير قادر على حماية المجتمع
إن هذه العوامل المتضافرة، من قوانين مقيدة وتدخل حكومي في آليات التنظيم الذاتي وهشاشة اقتصادية واستغلال للدعم، تؤدي إلى ضعف بنيوي في الإعلام المغربي. عندما يكون الإعلام ضعيفاً اقتصادياً وتحد من حريته قوانين فضفاضة، وتفتقر هيئاته التنظيمية للشرعية والاستقلالية، فإنه يصبح أقل قدرة على القيام بدوره في التحقق من الحقائق وتقديم محتوى مهني وموثوق.
يؤكد خبراء الأمن السيبراني أن التحدي الأكبر للإعلام المغربي ليس فقط في مواجهة “الأكاذيب الخارجية”، بل في استعادة ثقة الجمهور في المحتوى الرقمي وتحسين جودة المحتوى المحلي. فإذا كانت مصداقية الإعلام الرسمي وغير الرسمي محل شك لدى الجمهور بسبب هذه الإجراءات، فإن مجرد الرد على “الأكاذيب الخارجية” لن يكون كافياً. بل يجب أن يُبنى هذا الرد على أساس داخلي متين من الثقة والاحترافية.
تظهر هجمات “جبروت” أن الإعلام المغربي يواجه تحدياً مزدوجاً: داخلياً، يتمثل في استعادة ثقة الجمهور المتشكك في المحتوى الرقمي، وخارجياً، في مواجهة إعلام خصم لا يلتزم بأخلاقيات المهنة ويعتمد على التضليل الممنهج. إن بناء إعلام قوي وموثوق به يتطلب معالجة شاملة لنقاط الضعف الداخلية، وليس فقط مواجهة التهديدات الخارجية.
في الختام، إن الإضعاف “العنيف والممنهج” للإعلام المغربي، سواء عبر التشريعات التراجعية أو استغلال الضغوط الاقتصادية او تشجيع التفاهة، يؤدي إلى تقويض قدرته على أن يكون حصناً منيعاً للمجتمع في مواجهة الحروب السيبرانية وحملات التضليل الإعلامي. فالإعلام الذي يفتقر للاستقلالية والمصداقية والشفافية لا يمكنه أن يحمي المواطن بفعالية من المعلومات المضللة، بل قد يساهم عن غير قصد في تعميق الشكوك القائمة.
تحياتي
عبدالعالي الجابري، وجدة في 5 غشت 2025