هجمات “جبروت” – استهداف الثقة الوطنية في خضم الصراع الجيوسياسي

شكلت الهجمات السيبرانية الأخيرة المعروفة باسم “جبروت” اختبارًا حقيقيًا لمرونة المغرب على الأصعدة السيبرانية والإعلامية والاجتماعية. لم تكن هذه الهجمات مجرد حوادث قرصنة عابرة، بل كانت أداة في حرب نفسية ممنهجة تستهدف الوعي والثقة. الهدف الأساسي لم يكن البيانات بحد ذاتها، بل زعزعة الثقة في قدرة الدولة على حماية مواطنيها، بما يتماشى تمامًا مع أهداف “حرب الإدراك” الموجهة.
هجمات “جبروت” كنموذج للحرب الرقمية الموجهة
أظهر التحليل أن هجمات “جبروت” لم تكن مجرد حادثة قرصنة تقنية، بل أداة في سياق “حرب الإدراك” الموجهة ضد المؤسسات المغربية ضمن صراع جيوسياسي محدد. استهدفت هذه الهجمات مؤسسات وطنية حساسة، كان أبرزها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات. وقد أسفرت هذه الهجمات عن تسريب كميات كبيرة من البيانات الشخصية والمهنية، بما في ذلك بيانات أجور حوالي مليوني موظف في حوالي 500 ألف شركة مغربية، مما أثار جدلاً واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المحلية.
أعلنت مجموعة قرصنة تُطلق على نفسها اسم “جبروت دي زاد” (Jabrout DZ) مسؤوليتها عن الهجوم عبر قناتها على “تليجرام”، مدعية أنه “رد” على هجمات قراصنة مغاربة. وفي المقابل، أشار الناطق باسم الحكومة المغربية إلى أن ما حدث هو “فعل إجرامي” تقف وراءه “جهات معادية”. تزامن الهجوم مع تجديد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، مما يربط الحادثة بشكل مباشر بالسياق الجيوسياسي. يرى الخبراء أن هذه الهجمات تُحلل ضمن استراتيجية أوسع تُسمى “حرب الإدراك” (War of Perceptions)، التي تهدف إلى التأثير على الوعي الجماعي للمواطنين وتشويه سمعة المؤسسات الحيوية في الدولة.
تبرز هنا نقطة تحليلية أخرى تتعلق بالغموض المتعمد حول أسماء مجموعات القرصنة، حيث تبنت “جبروت دي زاد” الهجوم، بينما أشارت مصادر أخرى إلى أن قراصنة مغاربة باسم “فانتوم أطلس” (Phantom Atlas) هاجموا مواقع جزائرية. هذا الاستخدام المزدوج للأسماء قد يكون جزءًا من استراتيجية الحرب الرقمية نفسها، يهدف إلى تشتيت الانتباه وتصوير المعلومات على أنها مجرد “أساطير” أو “أكاذيب” كما يوحي اسم الكتاب “فانتوم أطلس: أعظم الأساطير والأكاذيب والأخطاء على الخرائط”، مما يجعل التمييز بين الحقيقة والتضليل صعبًا على الجمهور والمراقبين.
تأثير الهجمات على الثقة الداخلية ونقاط الضعف
أظهرت هجمات “جبروت” أن الهجمات السيبرانية تستغل نقاط الضعف الموجودة بالفعل بدلاً من خلق انعدام الثقة من العدم. فقد كشفت الهجمات عن وجود “حواف هشة” في الثقة الداخلية المرتبطة مباشرة بالأداء الحكومي في ملفات اجتماعية واقتصادية، مثل جهود مكافحة الفساد والوضع الاقتصادي. وفقًا لاستطلاع للمعهد المغربي لتحليل السياسات، فإن الثقة في المغرب ذات طبيعة “خصوصية” وليست “معممة”، حيث ترتبط بشكل أساسي بالأسرة. وتظل الثقة مرتفعة في المؤسسات الأمنية والعسكرية (85% في الجيش و74% في الشرطة)، بينما يرى 66% من المغاربة أن جهود الحكومة في مكافحة الفساد غير فعالة.
كان الهجوم يستهدف بشكل مباشر الثقة في قدرة الدولة على حماية مواطنيها، وليس مجرد الوصول إلى البيانات. يغذي هذا الشعور بأن المؤسسات ليست فقط غير فعالة في حل المشاكل اليومية، بل غير قادرة أيضًا على حماية معلومات المواطنين الحساسة. في هذا السياق، تظهر “نظرية الانهيار الانسيابي” التي تشير إلى خلق شقوق بسيطة لكنها عميقة داخل النسق العام للحكم، لتتزايد وتتعمق حتى يحدث الانهيار والانشطار.
الإعلام المغربي كـ “حماية داخلية”
يُلقي الهجوم السيبراني على المؤسسات الحكومية الضوء على الدور المحوري للإعلام المغربي كـ “حماية داخلية” في مواجهة التهديدات الهجينة. يرى خبراء الإعلام أن الإعلام المغربي يواجه تحديًا مزدوجًا: داخليًا يتمثل في استعادة ثقة الجمهور المتشكك في المحتوى الرقمي، وخارجيًا في مواجهة إعلام خصم لا يلتزم بأخلاقيات المهنة ويعتمد على التضليل الممنهج. وقد دعا رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، عبد الكبير أخشيشين، إلى أن يكون الإعلام العمومي في طليعة المواجهة، من خلال تحديث أدواته وتقديم محتوى يعتمد على الحقائق والبحث المعمق.
تعتمد استراتيجية الاتصال الحكومي على إيصال المعلومات من القطاع العام وضمان توافرها وتشجيع مشاركة المواطنين، مع الاعتراف بأهمية الشفافية والسرعة في التعامل مع الأزمات. وفي المقابل، تُظهر المقارنة بين استراتيجيات الإعلام المغربي والجزائري تباينًا جوهريًا. يوصف الإعلام الجزائري بأنه يفتقر إلى المصداقية ويعتمد على “التضليل الممنهج” ونشر الأخبار الكاذبة لتنفيذ أجندة السلطة السياسية. بينما يتبنى الإعلام المغربي استراتيجية تركز على تفكيك المغالطات والكشف عن زيفها عبر “محتوى إعلامي مهني”.
تحديات الأمن السيبراني وتوصيات استراتيجية
كشف تقرير صادر عن المعهد المغربي لتحليل السياسات بعد هجمات “جبروت” عن العديد من نقاط الضعف التي تؤثر على قدرة المغرب في مواجهة التهديدات السيبرانية. وتشمل هذه التحديات:
• غياب الوعي الكافي: ضعف الثقافة العامة حول الممارسات الرقمية الآمنة، مما يسهل على المهاجمين استغلال جهل المستخدمين.
• نقص الكفاءات المتخصصة: نقص الكفاءات في مجال الأمن السيبراني يمثل تحديًا كبيرًا للتصدي الفعال للهجمات المعقدة.
• ضعف الإطار القانوني والتنظيمي: غياب إطار قانوني صارم وعقوبات غير كافية تحد من فعالية الردع القانوني.
• الاعتماد على أنظمة قديمة: العديد من المؤسسات المغربية لا تزال تعتمد على أنظمة قديمة في بنيتها التحتية المعلوماتية، مما يجعلها أكثر عرضة للاختراق.
• الصعوبات المالية: تواجه المؤسسات الصغرى والمتوسطة صعوبات في تمويل استثمارات أدوات الحماية الحديثة.
لمواجهة هذه التحديات، يجب تبني استراتيجية شاملة ومتعددة الأبعاد تشمل الجوانب التقنية والقانونية والإعلامية والاجتماعية. وتوصي الدراسة بتنظيم حملات توعية وطنية واسعة لرفع الثقافة الرقمية والأمن السيبراني، والاستثمار في برامج التكوين المتخصص، وتعزيز الإطار التشريعي وتطبيقه بشكل صارم، وتحديث الأنظمة المعلوماتية، وتقديم الدعم المالي والتقني للمؤسسات الصغرى والمتوسطة. كما يجب على الإعلام الاستثمار في تدريب الصحفيين على التحقق من الحقائق وآليات “حرب المعلومات”.
التحليل الأمني: جبروت من إنتاج خارجي واستغلال للثغرات الداخلية
من منظور أمني تحليلي، يؤكد الخبير في الأمن السيبراني، الحسن كرم، أن “جبروت” ليست من إنتاج مغربي داخلي، بل هي منتوج خارجي. يستحيل أن تكون صراعًا بين الأجهزة المغربية الأمنية (المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني والمديرية العامة للدراسات والمستندات) لأنها تعمل تحت مظلة الملك وتتبع منظومة ملكية راسخة. يعتبر تعيين الجنرال عبد الله بوطريق على رأس المديرية العامة لأمن نظم المعلومات إشارة قوية من جلالة الملك على تتبعه للأمور واستعداده للمواجهة.
يشير كرم إلى أن الهجمات تُنسب بشكل أساسي إلى الجهاز الثالث للمخابرات الجزائرية (المديرية العامة للتحقيق التقني)، بالتعاون مع منظمة APT34 الإيرانية. الهدف هو زعزعة استقرار المغرب من خلال استهداف الأجهزة الأمنية والمؤسسة الملكية. ويُعد التركيز على استهداف الأمن المغربي محاولة لضرب استقرار البلاد، فالأمن هو مرتكز الاستقرار والتنمية. كما أن استغلال بعض الثغرات أو وجود “ضعاف النفوس” داخل المغرب ممن يتعاونون مع جهات خارجية لا يغير حقيقة أن المخطط الأساسي والأهداف النهائية خارجية. استخدام أساليب التمويه والخداع الاستراتيجي، مثل إظهار الهجوم وكأنه رد فعل من جهات داخلية أو التعبير عن دعم لتعيينات ملكية، يهدف إلى إحداث البلبلة وزرع الفتنة في الرأي العام.
الخاتمة: بناء الثقة كمشروع مجتمعي شامل
على الرغم من خطورة هجمات “جبروت”، فإن الثقة الداخلية للمواطن المغربي لم تهتز بشكل جذري. ويعود ذلك بالأساس إلى ارتفاع مستويات الثقة في المؤسسات الأساسية للمجتمع كالمؤسسة الأسرية، والجيش، والشرطة. ومع ذلك، كشفت الهجمات عن “حواف هشة” تتمثل في انخفاض الثقة ببعض جوانب الأداء الحكومي، مثل جهود مكافحة الفساد والوضع الاقتصادي. وتعتبر هذه الثغرات الداخلية أرضية خصبة للتأثر بحملات التضليل الخارجية، مما يتطلب معالجة شاملة لهذه المظالم القائمة.
إن بناء الثقة ليس مجرد عملية تقنية، بل هو مشروع مجتمعي متكامل يرتكز على الشفافية والمساءلة والكفاءة. ويتطلب هذا إصلاحات هيكلية واستثمارًا في الاحترافية والشفافية. إنها معركة مستمرة تتطلب يقظة دائمة وتعاونًا بين كافة الجهات، من الحكومة إلى الإعلام والمجتمع المدني، لضمان أن الحقيقة تظل السلاح الأقوى في مواجهة الحرب الرقمية. كما يجب أن تكون هذه الأزمة فرصة لفتح أوراش الإصلاح الحقيقية، بما في ذلك إصلاح الوظيفة العمومية وتعزيز دور الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، لتقوية المناعة الداخلية للمجتمع ضد أي محاولات للزعزعة أو التضليل.