من وحي الدرس الافتتاحي أو حوار وزير العدل السابق محمد مشيشي العلمي وقيدوم الناشرين محمد عبدالرحمان برادة

قدم وزير العدل السابق محمد مشيشي العلمي درسا افتتاحيا ، بمناسبة الندوة الوطنية التي نظمتها الفيدرالية المغربية لناشري الصحف، بالرباط يوم السبت 12 أبريل 2025, حيث اتسم تدخله بتقديم رؤية نقدية عميقة ومتعددة الأبعاد لتحولات الإعلام، سواء على المستوى المحلي في المغرب أو على الصعيد العالمي.
وعكس تدخله، الذي قدم في شكل حوار بينه وبين قيدوم الناشرين بالمغرب السيد محمد عبدالرحمان برادة، قلقًا وجوديًا حول تدهور دور الإعلام من أداة للتقدم والتنوير إلى قوة مدمرة تُستغل في كثير من الأحيان بشكل سلبي. حيث قال”بعدما كان الاعلام رافعة اصبح سلاحا فتاكا بيد المجرمين” مستدركا ” كما لا يزال بيد بعض العقلاء”
وسننعمل هنا جاهدين، تناول اهم المفاهيم الأساسية التي يطرحها الاستاذ محمد مشيشي العلمي، محاولين التدقيق في دلالاتها، شرحها، واستكشاف السياقات التي تؤطرها، مع التركيز على الأفكار المركزية والتعليق على أهميتها.
1- مفهوم “الإعلام”: من رافعة إلى سلاح فتاك:
بدأ السي محمد مشيشي العلمي بطرح ثنائية حادة في تقييم الإعلام: كان في الماضي “رافعة” و”أداة للتقدم”، ثم تحول إلى “سلاح فتاك” بيد المجرمين، مع بقائه أيضًا بيد العقلاء. هذه الثنائية تُبرز التحول الجذري في وظيفة الإعلام، مع إشارة إلى استمرارية إمكانياته الإيجابية إذا استُخدم بحكمة.
- الإعلام كرافعة: يشير مصطلح “رافعة” إلى الدور التاريخي للإعلام كقوة محركة للمجتمع. في السياق التاريخي، خاصة في العالم العربي والمغرب، كان الإعلام (الصحافة المكتوبة، الإذاعة، ثم التلفزيون) أداة لنشر الوعي، تعزيز الحركات التحررية، ودعم الديمقراطية. على سبيل المثال، الصحافة المغربية في فترة ما بعد الاستقلال لعبت دورًا في نقد السلطة وتثقيف الجمهور. هذا الدور يعكس رؤية مثالية للإعلام كجسر بين الحقيقة والمجتمع.
- الإعلام كسلاح فتاك: التحول إلى “سلاح فتاك” يُعبر عن قلق معاصر حول استغلال الإعلام في نشر التضليل، الدعاية، أو حتى تحريض العنف. في عصر الإعلام الرقمي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الأخبار أدوات يمكن أن تُستخدم للتلاعب بالرأي العام، تعميق الانقسامات الاجتماعية، أو حتى خدمة أجندات سياسية أو اقتصادية. مصطلح “المجرمين” هنا قد لا يقتصر على المعنى الحرفي، بل يمكن أن يشمل أيضًا الجهات التي تستغل الإعلام بشكل غير أخلاقي، سواء كانت أفرادًا، مؤسسات، أو حتى دولًا.
- الثنائية المستمرة: إشارة الوزير السابق إلى استمرار الإعلام بيد “العقلاء” تُبرز بصيصًا من الأمل. العقلاء هم الإعلاميون الملتزمون بالأخلاقيات المهنية والذين يسعون لاستعادة الدور الإيجابي للإعلام. لكن هذه الإشارة تأتي مع تحذير ضمني: العقلاء أقلية، مما يعزز الشعور بالأزمة.
هذا التحول في وظيفة الإعلام يعكس تغيرات اجتماعية وتكنولوجية أوسع. في المغرب، على سبيل المثال، شهدت السنوات الأخيرة نقاشات حول حرية الصحافة، التضييق على الصحفيين، وتأثير الإعلام الرقمي غير المنظم. عالميًا، ظواهر مثل “الأخبار الكاذبة” (Fake News) و”غرف الصدى” (Echo Chambers) تُظهر كيف يمكن للإعلام أن يصبح أداة تدميرية. الدرس الافتتاحي يدعونا إلى التفكير في كيفية استعادة التوازن بين الإمكانيات الإيجابية والمخاطر السلبية للإعلام.
2. مفهوم “العقلاء” و”المتطفلون والمتدخلون”
يُركز العلمي على تراجع نفوذ “العقلاء” (الإعلاميون المحترفون والنزيهون) مقابل صعود “المتطفلون والمتدخلون”، وهي فئة تشمل أشخاصًا ذوي دوافع مشكوك فيها، مثل المؤثرين أو الأشخاص الذين يستغلون الإعلام لمصالحهم الشخصية.
- العقلاء: هذا المصطلح يُحيل إلى الإعلاميين الذين يلتزمون بمعايير الأخلاق المهنية، مثل الدقة، الحياد، والمسؤولية الاجتماعية. في سياق التحليل، هم أقلية تعاني من التهميش بسبب نقص الموارد والدعم المؤسسي. يمكن أن نرى في هذا إشارة إلى الصحفيين التقليديين أو الأكاديميين الذين يحاولون الحفاظ على جودة الإعلام في مواجهة التجارب الشعبوية أو التجارية.
- المتطفلون والمتدخلون: هذه التسمية واسعة وتشمل مجموعة متنوعة من الجهات: المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، الصحفيين غير المحترفين، أو حتى الأفراد الذين يستغلون المنصات الإعلامية لنشر محتوى مضلل أو مثير للجدل من أجل الشهرة أو المال. مصطلح “تغير تسمياتهم والقابهم” يُشير إلى التطور السريع في أدوار الإعلام، حيث ظهرت فئات جديدة مثل “المؤثرين” (Influencers) الذين قد يفتقرون إلى التدريب المهني أو الالتزام الأخلاقي.
- الطابع السلبي: يُركز العلمي على تأثير هؤلاء المتطفلين، الذين يُسهمون في تدهور جودة الإعلام من خلال الترويج لمحتوى سطحي، مضلل، أو حتى ضار. هذا يعكس أزمة مصداقية في الإعلام، حيث يصبح من الصعب على الجمهور التمييز بين المعلومات الموثوقة وتلك غير الموثوقة.
هذا التمييز بين العقلاء والمتطفلين يُعيدنا إلى نقاش قديم حول احترافية الإعلام مقابل الديمقراطية الإعلامية. من جهة، التكنولوجيا جعلت الإعلام أكثر انفتاحًا، مما سمح لأصوات جديدة بالظهور. من جهة أخرى، هذا الانفتاح أدى إلى فوضى في المعلومات، حيث يمكن لأي شخص أن يصبح “إعلاميًا” دون تدريب أو مسؤولية. في المغرب، يمكن ربط هذا التحليل بظاهرة انتشار المحتوى غير المنظم على منصات مثل يوتيوب وفيسبوك، والتي غالبًا ما تتجاوز وسائل الإعلام التقليدية في التأثير.
3. أزمة الموارد وتجاهل المسؤولين السياسيين
يُشير العلمي إلى نقص الموارد لدى الإعلاميين الجادين الذين يسعون لإصلاح الإعلام، مع انتقاد المسؤولين السياسيين الذين يرون الإعلام قضية ثانوية تُصحح نفسها بنفسها.
- نقص الموارد: الإعلاميون الجادون، حسب الوزير السابق، يفتقرون إلى الدعم المالي، التشريعي، أو المؤسسي لتنفيذ إصلاحات. هذا قد يشمل، على سبيل المثال، غياب تمويل للصحافة الاستقصائية، ضعف التدريب المهني، أو محدودية الوصول إلى منصات مؤثرة. في المغرب، تواجه العديد من المؤسسات الإعلامية المستقلة تحديات مالية تجعلها عرضة للضغوط السياسية أو التجارية.
- تجاهل المسؤولين السياسيين: موقف السياسيين الذي يرى الإعلام قضية ثانوية يعكس رؤية قاصرة لدور الإعلام في المجتمع. العلمي يُشير إلى أن الإعلام لن يُصلح نفسه تلقائيًا، بل يحتاج إلى “محرك خارجي”، مثل تشريعات جديدة، دعم حكومي، أو تدخل قضائي. هذا يُبرز الفجوة بين الإعلام والسلطة، حيث يُنظر إلى الإعلام أحيانًا كتهديد أكثر من كونه شريكًا في التنمية.
- الحلول المقترحة ضمنيًا: المتحدث لا يقدم حلولًا تفصيلية، لكنه يدعو إلى تدخل خارجي، سواء عبر تحسين التشريعات، تعزيز التوعية، أو تفعيل الأخلاقيات. هذا يُشير إلى ضرورة إصلاحات هيكلية تشمل القوانين المنظمة للإعلام، تدريب الصحفيين، وتطوير آليات رقابة ذاتية.
هذا الجزء من الحديث يُسلط الضوء على أزمة بنيوية في العلاقة بين الإعلام والدولة. في العديد من الدول، بما في ذلك المغرب، يُنظر إلى الإعلام المستقل بحذر من قبل السلطات، مما يحد من قدرته على التطور. في الوقت نفسه، غياب الدعم الحكومي يترك الإعلام عرضة للتأثيرات التجارية أو السياسية. دعوة العلمي إلى “محرك خارجي” تُبرز الحاجة إلى تعاون بين القطاعات الحكومية، المدنية، والإعلامية لإعادة تعريف دور الإعلام في المجتمع.
4. مسألة اللجنة المؤقتة للصحافة
يتناول العلمي قضية اللجنة المؤقتة للصحافة، متسائلًا عن شرعيتها القانونية وانتقدًا عدم اللجوء إلى القضاء الإداري لحل أزمتها التنظيمية.
- الشرعية القانونية: تساؤل العلمي حول ما إذا كانت اللجنة أُنشئت بقانون تشريعي أو مرسوم تنظيمي يُبرز قلقًا حول الشفافية والمساءلة في إدارة المؤسسات الإعلامية. هذا يعكس مشكلة أوسع في المغرب تتعلق بالغموض القانوني الذي يحيط أحيانًا بالهيئات المنظمة للإعلام.
- اللجوء إلى القضاء: اقتراح العلمي برفع الأمر إلى القضاء الإداري لتعليق عمل المكتب السابق وتنظيم انتخابات جديدة يُظهر إيمانًا بدور القضاء كآلية لحل النزاعات المؤسسية. هذا الاقتراح يُبرز أهمية الفصل بين السلطات وضرورة وجود نظام قانوني قوي لتنظيم الإعلام.
- الأزمة التنظيمية: وصول اللجنة إلى “باب مسدود” يُشير إلى فشل في الحوكمة الداخلية، ربما بسبب انتهاء الولاية القانونية للمكتب أو خلافات داخلية. هذا يعكس تحديات بنيوية في إدارة الهيئات الإعلامية، التي غالبًا ما تفتقر إلى آليات ديمقراطية واضحة.
هذه القضية تُبرز أزمة حوكمة في القطاع الإعلامي المغربي. اللجنة المؤقتة للصحافة، التي يُفترض أن تكون هيئة منظمة، تُعاني من مشاكل شرعية وتنظيمية، مما يعيق قدرتها على دعم الإعلاميين. اقتراح العلمي باللجوء إلى القضاء يُظهر حاجة إلى إصلاحات مؤسسية تضمن الشفافية والمساءلة، وهي قضية ليست خاصة بالمغرب بل تتكرر في العديد من الدول التي تواجه تحديات في تنظيم الإعلام.
5. السياق العام والدلالات الأوسع
السياق المغربي والعالمي:
- في المغرب: حديث الوزير يأتي في سياق يتسم بالتوتر حول حرية الصحافة. في السنوات الأخيرة، واجه صحفيون مغاربة اتهامات وملاحقات قضائية، مما أثار نقاشات حول استقلالية الإعلام. كما أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي زاد من تعقيد المشهد الإعلامي، حيث أصبحت الأصوات غير المنظمة تتنافس مع الإعلام التقليدي.
- عالميًا: قول الوزير يتجاوز الحدود المحلية ليعكس أزمة عالمية. ظواهر مثل التضليل الإعلامي، سيطرة الشركات الكبرى على المنصات الإعلامية، وتراجع ثقة الجمهور في وسائل الإعلام تُظهر أن مخاوف العلمي ليست محلية فقط.
الدلالات الاوسع:
- أزمة الأخلاقيات: قلق الوزير يُشير إلى أزمة أخلاقية في الإعلام، حيث تُغلب المصالح الشخصية أو التجارية على المسؤولية الاجتماعية. هذا يدعو إلى إعادة التفكير في التدريب الإعلامي وتطوير مدونات أخلاقية ملزمة.
- دور الدولة: دعوة العلمي إلى تدخل خارجي تُبرز الحاجة إلى توازن بين حرية الإعلام وتنظيمه. الدولة يمكن أن تلعب دورًا في دعم الإعلام المستقل دون التدخل في محتواه.
- التكنولوجيا والإعلام: الإشارة إلى “المتطفلين” تُبرز تأثير التكنولوجيا على الإعلام. ظهور وسائل التواصل الاجتماعي جعل الإعلام أكثر ديمقراطية ولكنه أيضًا أكثر فوضوية، مما يتطلب استراتيجيات جديدة لتنظيمه.
خاتمة
يقدم درس محمد مشيشي العلمي تحليلًا عميقًا وقلقًا لأزمة الإعلام المعاصر، مع التركيز على تحولاته من أداة للتقدم إلى قوة يمكن أن تكون مدمرة. من خلال مفاهيم مثل “العقلاء”، “المتطفلون”، و”السلاح الفتاك”، يُبرز الوزير السابق التحديات الأخلاقية، التنظيمية، والسياسية التي تواجه الإعلام. كما يدعو، بشكل ضمني، إلى إصلاحات شاملة تشمل تعزيز الأخلاقيات، دعم الإعلاميين الجادين، وإعادة تعريف العلاقة بين الإعلام والسلطة.
التوصيات التي يمكن استخلاصها من درس الاستاذ مشيشي العلمي:
- إصلاح تشريعي: وضع قوانين واضحة لتنظيم الإعلام، خاصة في السياق الرقمي، مع ضمان حرية التعبير.
- دعم الإعلام المستقل: توفير موارد مالية وتدريبية للإعلاميين الملتزمين بالأخلاقيات.
- تفعيل دور القضاء: استخدام القضاء كآلية لحل النزاعات المؤسسية وضمان الشفافية.
- توعية الجمهور: تعزيز التثقيف الإعلامي لتمكين الجمهور من التمييز بين المعلومات الموثوقة وغير الموثوقة.
ختاما نقول ان من خلال هذا التحليل يُظهر أن حوار السيدين محمد مشيشي العلمي ومحمد عبدالرحمان برادة ليس مجرد نقد للوضع الراهن، بل دعوة إلى إعادة تصور دور الإعلام في بناء مجتمع أكثر عدالة ووعيًا.