مداخلات ندوة جرسيف الوطنية تُسلط الضوء على “مسار التنمية في الصحراء المغربية”: من المسيرة الخضراء إلى النموذج التنموي الجديد ومبادرة الحكم الذاتي

في إطار فعاليات الندوة الوطنية المنظمة تحت إشراف عمالة إقليم جرسيف، وبمبادرة من المديرية الإقليمية لوزارة التربية والتعليم الأولي والرياضة والمديرية الجهوية لوزارة الثقافة والشباب والتواصل – قطاع التواصل، إلى جانب فرع جهة الشرق للفيدرالية المغربية لناشري الصحف، تم تقديم قراءات أكاديمية معمقة حول مسار التنمية الشاملة التي تشهدها الأقاليم الجنوبية للمملكة.
وقد تناولت مداخلتا الأستاذين عبد القادر التايّري وعبد النور صديق الجوانب التاريخية والتنموية والسياسية لهذا المسار الوطني المحوري.
الأقاليم الجنوبية: مسيرة بناء وتنمية متواصلة (الأستاذ عبد القادر التايّري)
ركزت مداخلة الأستاذ عبد القادر التايّري، وهو أستاذ محاضر مؤهل بشعبة الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الأول بوجدة، حول محور “الأقاليم الجنوبية للمغرب: مسيرة من استرجاع إلى مسيرة إعمار وتنمية”.
أكد الأستاذ التايّري أن ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة في السادس من نونبر 1975 لم تكن مجرد مسيرة سلمية لاسترجاع الأراضي التي كانت تحتلها إسبانيا، بل كانت تجسيداً حياً لقوة الإرادة والوحدة التي تربط العرش المغربي بالشعب لاستكمال الوحدة الترابية. كما شكلت وعداً بعهد جديد من البناء والتعمير.
وانطلاقاً من هذا الوعد، انطلقت ملحمة الإعمار والتنمية، حيث عمل المغرب على تحويل هذه الأقاليم إلى قاطرة للتنمية تحت القيادة الرشيدة لملوكه. وشهدت المنطقة استثمارات ضخمة في البنية التحتية، تمثلت في شق الطرق السريعة وإنشاء ميناء الداخلة العملاق الأطلسي. وأشار الأستاذ إلى أن المنطقة أصبحت قطباً عالمياً في مجال الطاقات المتجددة، بفضل مشاريع ضخمة مثل “نور” للطاقة الشمسية والريحية.
لتعزيز هذه المكتسبات، جاء “النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية” بغلاف مالي هائل، يهدف إلى خلق فرص الشغل والنهوض بالخدمات الصحية والتعليمية وتحسين جودة الحياة. كما شدد على أن الإعمار لم يقتصر على الجانب المادي فحسب، بل شمل أيضاً تعزيز الهوية الثقافية، خاصة الرافد الحساني الأصيل، وتحويل المنطقة إلى بوابة إفريقية حقيقية من خلال استضافة التظاهرات الدولية.
من المسيرة الخضراء إلى الحكم الذاتي: مراحل التنمية (الأستاذ عبد النور صديق)
من جانبه، قدم الأستاذ عبد النور صديق، وهو باحث وأستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة في جامعة محمد الخامس بالرباط، مداخلة بعنوان “مسيرة التنمية في الصحراء المغربية: من المسيرة الخضراء إلى مبادرة الحكم الذاتي”.
اعتبر الأستاذ صديق قضية الصحراء المغربية من القضايا الوطنية المحورية التي عززت معاني الوحدة والسيادة في وعي الشعب، ودمجت الصحراء بشكل أساسي في مسار التنمية الشاملة للمملكة. وأكد أن مسيرة التنمية في الصحراء المغربية مرت بعدة مراحل يمكن تحديدها كالتالي:
1. مرحلة ما بعد المسيرة الخضراء: تميزت بتنفيذ سياسة تنموية شاملة باشرتها الدولة لترسيخ الاستقرار وتعميق الانتماء الوطني. شملت هذه السياسة إحداث بنى تحتية كبرى مثل الطرق والموانئ والمطارات، وربط المدن الصحراوية بشبكات الماء والكهرباء والاتصالات. كما أُولي اهتمام خاص للقطاعات الاجتماعية؛ حيث أُنشئت المدارس والمستشفيات والمؤسسات الجامعية. وأثمرت هذه الجهود تحويل الصحراء إلى مجال حيوي ينبض بالنشاط، ومثال يُحتذى به في الاندماج الوطني والتنمية المتوازنة.
2. النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية: شهد مسار التنمية تحولاً نوعياً في ظل العهد الجديد، بإطلاق مبادرة الملك محمد السادس للنموذج التنموي الجديد سنة 2013. يهدف هذا المشروع الطموح إلى تحويل الأقاليم الجنوبية إلى قطب اقتصادي متقدم ومجال لجذب الاستثمارات الوطنية والدولية. ويرتكز على تطوير البنيات التحتية وتشجيع الطاقات المتجددة وتنمية الاقتصاد البحري والسياحة المستدامة، مع إيلاء أهمية قصوى للعنصر البشري.
3. مبادرة الحكم الذاتي: في سياق السعي لإيجاد حل سياسي دائم للنزاع المفتعل حول الصحراء، قدم المغرب في 2007 مبادرة الحكم الذاتي، معتبراً إياها حلاً واقعياً ومتقدماً يتمتع بالمصداقية والجدية. ترتكز المبادرة على منح الأقاليم الجنوبية صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها المحلية، وذلك في إطار السيادة المغربية ووحدة التراب الوطني. حظيت المبادرة بترحيب دولي واسع بوصفها نموذجاً للحلول السلمية القائمة على الحوار والتوافق. وقد توجت جهود المغرب في هذا الشأن بتبني مجلس الأمن الدولي لمبادرة الحكم الذاتي في 31 أكتوبر 2025 ، بوصفها الحل الأمثل والواقعي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية.
خلاصة القراءتين
خلصت التجربة، كما أشار الأستاذ صديق، إلى أن مسيرة التنمية في الصحراء المغربية لم تكن مجرد مشروع اقتصادي، بل مسيرة وطنية عنوانها الإخلاص والوفاء للوحدة الترابية. فمن المسيرة الخضراء إلى مبادرة الحكم الذاتي، ظل المغرب متمسكاً بخيار السلم والبناء. وهكذا، تظل الصحراء المغربية اليوم نموذجاً مشرقاً للتنمية والتحدي والإرادة، ورمزاً لوحدة الوطن من طنجة إلى الكويرة.
تؤكد القراءتان معاً أن مسار التنمية في الأقاليم الجنوبية، من خلال الاستثمارات الضخمة في البنى التحتية والتركيز على الإنسان والتنمية المستدامة، يجسد رؤية المغرب لمستقبل متوازن بين الجهات. وإذا كانت المسيرة الخضراء مثلت قوة الإرادة لاستكمال الوحدة، فإن النموذجين التنموي والحكم الذاتي يمثلان قوة الإرادة في تحقيق الازدهار والاندماج الوطني.
وفي سردية توضيحة يمكن القول : إن مسار التنمية في الصحراء المغربية، كما قدمه الأستاذان، كعملية بناء قصر شاهق: حيث كانت المسيرة الخضراء بمثابة وضع الأساس المتين للوحدة، والاستثمارات الأولى مثلت الجدران والأسقف (البنية التحتية والمرافق الاجتماعية)، ثم جاء النموذج التنموي الجديد ليضيف اللمسات الفنية والتقنية الحديثة (الطاقات المتجددة والاقتصاد المتقدم)، بينما تمثل مبادرة الحكم الذاتي المفتاح الذهبي الذي يمنح سكان القصر صلاحية إدارة شؤونهم بأنفسهم ضمن إطار وحدوي محصن.









