كناوة – من العبودية إلى الحرية إلى العالمية

الصويرة- 13 يوليوز 2025
في شوارع الصويرة، حيث تلتقي رياح الأطلسي بأنغام الروح، يتردد صوت “الكنبري” وإيقاعات “القراقب”، حاملةً معها قصص الأجداد وأحلام الأحفاد. فن كناوة، هذا الكنز المغربي ذو الجذور الأفريقية، ليس مجرد موسيقى، بل هو رحلة إنسانية بدأت من ظلم العبودية، وتفتحت في أحضان الحرية، لتصبح اليوم صوتًا عالميًا يعانق القلوب في كل أنحاء العالم. من طقوس الشفاء الروحانية إلى خشبات المهرجانات الدولية، يحمل كناوة بركة الأجداد وأمل المستقبل، في قصة مفعمة بالإيجابية والإبداع.
تعود جذور كناوة إلى السودان، حيث جلب العبيد إلى مدينة الصويرة في زمن السلطان مولاي إسماعيل. في أغانيهم، مثل “جابونا وباعونا”، يتردد صدى معاناة الأجداد الذين تحملوا العبودية، لكنهم زرعوا بذور فن تحول إلى رمز للصمود والتحرر. “كناوة في الدم ديالنا، في العروق ديالنا”، يقول أحد المعلمين، معبرًا عن ارتباط هذا الفن بالهوية والروح. من خلال الوراثة العائلية، انتقلت كناوة عبر الأجيال، حاملةً معها بركة المقدمين والمقدمات الذين كانوا يعالجون الناس بالموسيقى والذكر قبل أن تُعرف الأمراض الحديثة.
في قلب كناوة، تتألق طقوس “الليلة”، تلك الاحتفالية الروحانية التي تجمع بين الموسيقى، الذكر، والشفاء. في الماضي، كانت “الليلة” تمتد لأيام، حيث تُحضر الذبائح، البخور بأنواعه السبعة، الحليب، والتمر، في أجواء مليئة بالنية والإخلاص. “العفو يا مولانا، اللهم صلي عليك يا رسول الله”، تردد الأصوات، بينما ترتدي الفرق ألوانًا ترمز إلى الملوك والطبوع، من الأبيض في “فتوح الرحبة” إلى الأزرق لـ”المساوية”. هذه الطقوس ليست سحرًا، بل دعاء للشفاء والرحمة، حيث يبحث المرضى والمحبون عن “الجدبة”، تلك الحالة الوجدانية التي تذرف الدموع وتنعش الروح.
كناوة لم تظل حبيسة شوارع الصويرة، بل طارت أجنحتها إلى العالمية. من آلة “الكنبري” البسيطة، المصنوعة من جلد الماعز، إلى مشاركات في مهرجانات البرتغال، فرنسا، والبرازيل، تحولت كناوة إلى ظاهرة ثقافية عالمية. “كانت الحرفة ستموت، لكنها الآن بانت وصارت منظمة”، يقول أحد المعلمين بحماس. الأطفال، حتى في سن الرابعة، يعزفون على الكنبري، بينما يشارك “الكناوة البيض” في كسر الحواجز الاجتماعية، مؤكدين أن كناوة فن للجميع، يجمعهم الإيمان والمحبة.
مع هذا الصعود، تواجه كناوة تحديات الحداثة. يخشى المعلمون من اختلاط الفن بالموسيقى الغربية، مثل الهيب هوب أو الراب، مما قد يفقده “الحال” العفوي. لكن الأمل يبقى ساطعًا. هناك دعوات لإنشاء مدارس لتعليم كناوة، لضمان نقل “بركة الأجداد” إلى الأجيال الجديدة. “نريد أن يبقى الفن طرات، أصيلًا”، يؤكد أحد المؤدين، مشددًا على ضرورة تعليم الفن من معلمين نقيين يحملون القلب السليم. هناك أيضًا رؤى لابتكار أشكال جديدة، مثل فرق نسائية، مع الحفاظ على كناوة كـ”هواية” روحانية وليست مجرد مصدر رزق.
من قسوة العبودية إلى أنغام الحرية، ومن طقوس الشفاء إلى خشبات العالم، يروي فن كناوة قصة إنسانية ملهمة. إنه فن يحمل في طياته ذكرى الأجداد وأحلام الأحفاد، يجمع بين الألم والأمل، الروح والإبداع. مع كل إيقاع للقراقب ونغمة من الكنبري، يواصل كناوة رحلته، محافظًا على أصالته ومنفتحًا على العالم، ليبقى صوتًا يشفي القلوب ويوحّد الأرواح. في الصويرة وخارجها، كناوة ليست مجرد فن، بل هي حياة، بركة، وحرية