قناديل في دروب العدالة المملوءة بالسراديب والإكراهات والسلوكات البشرية المنحرفة

قناديل في دروب العدالة المملوءة بالسراديب والإكراهات والسلوكات البشرية المنحرفة
عشرة في المائة من المغاربة أوصلتهم النيابة العامة للمحاكم
إعداد:عبد الرحيم باريج
دعم جلالة الملكِ محمد السادس استقلال السلطة القضائية،وحرص على إرساء قواعدِها على أرضية صلبة،حتى تتمكن هياكِلُها المختلفة من تطبيق القانون بحزم وحرص،وفقاً لمبادئ العدالة والإنصاف وسيادة القانون،مع الحرص على توازن الحقوق والواجبات،بما يضمن الحمايةَ للأمن والنظام العام وسكينة الوطن وساكنته.وأكدت مؤسسة النيابة العامة العزم على العمل ليل نهار لاستحقاق الثقة المولوية الغالية لخدمتها لقضايا الوطن،وتفانيها في الاهتمام بمطالب المواطنين من آليات العدالة،في إطار ما خوله لها القانون من صلاحيات وأسنده لها من سلطات.خاصة بعد الحدث التاريخي المرتبط باستقلال هذه المؤسسة القضائية عن كل تأثير سياسي،ليُعَدُّ دعماً لاستقلال السلطة القضائية وإسهاماً في تقوية هياكلها كمُكَوِّن أساسي من مكونات السلطة القضائية بالمغرب،تم بها استكمالُ البناءِ الدستوري للسلطة القضائية المستقلة،التي انظافت إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية لتكونَ واحدةً من أهم الجواهر الحقوقية التي أتى بها دستور المملكة الحالي،الذي نال موافقة الأغلبية الساحقة للمغاربة في استفتاء فاتح يوليوز 2011.
وخرجت مؤسسةُ النيابة العامة من حِضْن وزارة العدل لتُعَانق استقلالها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية بإرادةٍ مشتركة بين جلالة الملك والمواطنين المغاربة.
فقد كان جلالَتُه قد أعلن في خطاب 9 مارس 2011 المؤسس لصياغة الدستور الجديد،أن القرار الملكي بالتعديل الشامل لدستور 1996 يَسْتَنِدُ إلى سبعِ مرتكزاتٍ أساسية من بينها الارتقاءُ بالقضاء إلى سلطةٍ مستقلة (المرتكز الثالث) وتوطيدُ مبدأ فصل السلطِ وتوازُنِها وتعميقُ دَمَقْرَطةِ وتحديثِ المؤسسات وعقلنتِها (المرتكز الرابع).وقد ظهرت نتائج هذه التوجيهات الملكية في صُلْب دستور فاتح يوليوز 2011.والفصل 107 من الدستور قد نص على كون السلطة القضائية مستقلةً عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية وأن الملكَ هو الضامنُ لاستقلال القضاء.
النيابة العامة لصيانة حقوق وحريات المواطنين في تلازم بين الحقوق والواجبات
إن النيابة العامة رغم استقلالها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية،باعتبارها مُكونا هاما من مكونات السلطة القضائية،هي جزءٌ من سلطات الدولة،التي وإن كان الدستور ينص على فَصلها،فإنّه يقر توازنَها وتعاونَها لما فيه مصلحةُ الوطن والمواطنين.وسلطاتُ النيابة العامة بالإضافة إلى ذلك،مؤطرة بإطار صارمٍ يحدده لها القانون الذي يحكم كل تدخلاتها.هذه التدخلات التي تخضع للمراقبة الفورية والصارمة للقضاء،مما يجعل كل قرارات أعضائِها محل رقابة قضائية تحول دون كل إساءة لاستعمال السلطة،باعتبار القاضي هو الذي يتولى “حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي،وتطبيق القانون”،بالنص الصريح للفصل 117 من الدستور.
ولذلك فإن جميع قرارات النيابة العامة تخضع لهذه المراقبة القضائية سواء تعلقت بالحد من الحريات بما فيها الاعتقال الاحتياطي أو بغيرها من القرارات،حيث يُحدد القانون آجالاً قصيرة لمثول المعتقلين أمام المحكمة التي يمكنها وضع حدٍّ للاعتقال ولكافة التدابير والإجراءات الأخرى التي قد تكون النيابة العامة قد أمرت بها.كما أن رئاسة النيابة العامة ليستْ بمنأى عن المساءلة والمحاسبة التي نص عليها الدستور.والتي وإن كانت لا تتم بنفس الأدوات وبذات الآليات التي تتم بها بالنسبة للسلطات الأخرى بالنظر لاستقلال السلطة القضائية عن السلطتين الحكومية والبرلمانية،كما نص على ذلك قرار المجلس الدستوري السابق رقم 991.16 (15 مارس 2016)،الذي أضاف أن “الوكيل العام للملك المعهود إليه بترؤس النيابة العامة،يظل مسؤولا عن كيفية تنفيذه للسياسة الجنائية،وذلك أمام السلطة التي عينته المتمثلةِ في رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية (جلالة الملك).
وكذا أمام هذا المجلس الذي يتعين عليه أن يقدم له تقارير دورية بشأن تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة” التي تلتزم بالدستور وبالقوانين وفي مقدمتها القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية،وتطبق القانونَ الذي هو إرادةُ المغاربة جميعا،والتي يعبرون عنها بواسطة سلطتهم التشريعية تطبيقاً صارماً،وتتمسك بتنفيذ السياسة الجنائية التي يقرها المشرع بمقتضى القوانين باعتباره المختص بوضعِ هذه السياسة،كما نص على ذلك قرار المجلس الدستوري السالف الذكر،حين أكد أن “المشرع،باعتباره المختص بوضع السياسة الجنائية يحق له تتبعُ كيفياتِ تنفيذ هذه السياسة قصد تعديل المقتضيات المتعلقة بها وتطويرها إن اقتضى الأمر ذلك…(يحق له تدارسَ تقارير الوكيل العام للملك) والأخذَ بما قد يرد فيها من توصيات،مع مراعاة مبدأ فصل السلط والاحترام الواجب للسلطة القضائية المستقلة”،رائدُها في ذلك التمسك بتعليمات جلالة الملك التي وجهها لها بمناسبة تعيين ذ.النباوي وكيلاً عاماً لجلالته بصفته رئيساً للنيابة العامة والمسؤولَ القضائي الأول عن حسن سيرها،حيث أمره صاحبُ الجلالةِ بالدفاع عن الحق العام والذود عنه،وحماية النظامِ العام والعملِ على صيانتِه،متمسكا وسائرُ القضاة العاملين تحت إمرته بضوابط سيادة القانون ومبادئ العدل والإنصاف،التي ارتآها جلالة الملك “نهجا موفقاً لاستكمال بناء دولة الحق والقانون،القائمة على صيانة حقوق وحريات المواطنين،أفراداً وجماعات،في إطار من التلازم بين الحقوق والواجبات”(انتهى النطق الملكي السامي)..
وهي تعليمات واضحة ترسم خُطة للعمل وإطاراً لتصريف أشغال النيابة العامة لتكون في خدمة المملكة المغربية والمواطنين المغاربة،حريصةً على أمن الوطن،مساهمة في صيانة طمأْنينة ساكنتِه من المواطنين والمقيمين،حاميةً لحقوقهم وحرياتهم،بدون مفاضلةٍ ولا تمييز على أساس سياسي أو نقابي أو عِرْقِي أو اجتماعي،وإنما بناء على ما تحدده الوضعيات القانونية لكلِّ طرفٍ وما يمنحه التشريع من حقوق وما يفرضه من واجبات فقط.
كيف فهم ذ.النباوي استقلال النيابة العامة؟
إن استقلال النيابة العامة لا يعني انفصالَهَا المطلق عن الدولة،ولكن يعني عدم الخضوع لتَوَجُّهَاتِ حزبٍ من الأحزاب أو جماعةٍ من الجماعات،أو الانسياقِ وراءَ إيديولوجيا من الإيديولوجيات،والتقيدِ بما تمليه القوانين من أحكام والانخراطِ في معركة الدفاع عن القيم العليا للوطن والحفاظ على حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم،وحمايةِ مقدسات البلاد والمبادئ المثلى للإنسانية،ومعاداة الجريمة والمجرمين ومكافحةِ أنشطتهم دون كلٍ ولا ملل حتى تنتصر قيّم العدالة والإنصاف ويستقيم تطبيق قواعد الديمقراطية.
ولا يعني استقلال النيابة العامة أنها حرّةً في القيام بما تريد بمنأى عن كل مساءلة أو محاسبة،ولا عدمَ اعتبار حقوق الأفراد والجماعات ولا عدمَ التعاونِ مع مؤسسات الدولة والمجتمع لما فيه خيْرُ الوطن والمواطن،وإنما يعني أن النيابةَ العامةَ لن تكون أداةً طيعةً في يد شخصٍ أو جماعةٍ ضد أشخاصٍ أو جماعات أخرى،ولا سلاحاً سهْلَ الاستعمال في متناولِ جهةٍ ضد جهات أخرى.وإنما تَكُونُ أداةً في يد القانون ضدَّ من يخالفونه وسلاحاً في يدِ الوطن ضد من يستهدفونه.
هكذ فهم ذ.النباوي،استقلال النيابة العامة،حسب كلمته بمناسبة تسليم السلط،والتي اعتمدناها أساس هذه المتابعة والتقرير؛وهكذا عمل ولازال الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة على توجيه قضاتها وقاضياتها للدفاع عنه فقا للقانون،ليكونوا خصوماً للمخالفين للقانون والعابثين بحقوق وحريات الأشخاص،ليكونوا قناديل تضيء الطريق في دروب العدالة المملوءة بالسراديب الشكلية والإكراهات الاجتماعية والثقافية،وبعض السلوكات البشرية المنحرفة..لأن النيابة العامة لا تعادي إلاَّ من عاداهُ القانون ولا تخاصمُ إلاَّ من اعتدى على سكينةِ المجتمع..فهي سلاح المواطنين في مواجهة الجريمة ومحاميهم أمام المحاكم.
دخول مؤسسةَ رئاسةِ النيابة العامة معركة كسب الرهان الديمقراطي
أثارت مؤسسة النيابة العامة إعجاب كبار المفكرين،حتى وصفها مونتسكيو بالرائعة والمدهشة،وقد عرَفَها النظامُ القضائي المغربي منذ أكثر من قرن من الزمن (عام 1912).ومنذ ذلك التاريخ وهي تقوم بالدور الذي حدده لها القانون باعتبارها هيئة قضائية مكلفة بالبحث والتحري عن الجرائم والإشراف على عمل الشرطة القضائية وتمثيل المجتمع أمام المحاكم التي يعتبر أعضاء النيابة العامة جزءً من تشكلتها،وممارسة طرق الطعن في الأحكام الزجرية وفي بعض الأحكام الأخرى التي تكون طرفاً فيها والإشراف على تنفيذ العقوبات.
وقد أضاف إليها المشرع عبر مراحل وجودها مهام أخرى مختلفة كالصلح الجنائي وحماية الأسرة وتتبع سلامة تدبير المقاولة في بعض الأحوال…وخلال ما مضى من عمرها كانت النيابة العامة موضوعة تحت سلطة وزراء العدل والذين كانوا في أغلب الفترات قبل دستور 2011،يُعتبرون من جُمْلَةِ وزرَاء السيادة الذين لم يكن تعيينُهُم يخضع للمقاييس الحزبية السياسية المتعارف عليها ضماناً لعدم استعمالها لفائدة فريق سياسي ضد آخر،وحرصاً على عدم تسييس قراراتها لاعتبارات حزبية أو سياسية،ورغم ذلك فقد تم انتقاد أدائها في بعض الفترات لمثل هذه الأسباب.
واليوم اختار المغرب،تنفيذا لمبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية،أن يُرَسِّخَ هذا الاستقلال بإسناد رئاسة النيابة العامة لعضو من الهيأة القضائية نفسِها،يعيِّنُه جلالة الملك بصفته رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء والضامنَ لاستقلال السلطة القضائية (الفصل 107 من الدستور).وبذلك دخلت النيابة العامة عهداً دستورياً جديداً يرادُ منه ضمانُ حِياد القضاء والنأيِ بممارساته عن كل استغلال سياسي.والمغرب بهذا الاختيار يكون قد انضم إلى أعرق النماذج الديمقراطية في العالم التي بوأتِ القضاء مكانةَ سلطةٍ دستورية قائمةِ الذات.
ودخلت لذلك مؤسسةَ رئاسةِ النيابة العامة منذ استقلالها الدستوري في معركةٍ لكسب هذا الرهان الديمقراطي،الذي لن يكون كسْبُه سهلاً ولا طريقه مفروشاً بالورود.ورئيس النيابة العامة وكافةُ زملائه قضاةُ النيابة العامة وَاعُونَ بصعوبة هذا الرهان،ويعملون مسنودين بدعم جلالة الملك – رئيسهم المباشر– على ربح هذا الرهان وكسْبِ ثقة المغاربة بتجسيد نيابة عامة تُمَثِّلُ المجتمع المغربي وتعمل على تطبيق القوانين،وتعطي الأولوية للقضايا التي تشغل بال المواطنين في حماية أمنهم واستقرارهم وفرضِ هيبةِ مؤسساتهم وحفْظِ أخلاقِهم العامة وممارساتهم المشروعة،وحمايةِ المال العام والمنافسةِ المشروعة،ومحاصرةِ الظواهر الإجرامية المختلفة.
وتعمل لفائدة الوطن ولحمايةِ حقوقِ وحريات الأشخاص والجماعات في إطارِ الوضوح والشفافية والمساواة التي يَكْفُلُها القانون.ومواصلة العمل الذي تقوم به النيابة العامة وتسعى لتحسينه وتطويره في مجالاتِ مكافحة الجريمة وحماية الضحايا وتوفير شروط المحاكمة العادلة.كما تعطي دفعة أكبر لتطوير التعاون الدولي في مجال محاربة الجريمة ولاسيما الإرهاب والجرائم العابرة للحدود في إطارِ ما تنصُّ عليه الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف التي أبرمتها بلادنا مع الدول الأجنبية وفي إطار الشراكات المؤسسية المعقودة مع النيابات العامة ببعض الدول الصديقة.
كما أكد ذ.محمد عبد النباوي العزم على العمل لفائدة النظام العام بمفاهيمه الأمنية والأخْلاقية والاجتماعية دون انحيازٍ لحزب أو جهة نقابية أو لنسيج جمعوي أو تكتل اقتصادي أو مالي…وإنما بالانحيازِ للقانون ودفاعاً عن مصالح الوطن والمواطنين،في احترامٍ تامٍ للمؤسسات الدستورية والقانونية القائمة.وذلك لجعل النيابة العامة مؤسسةً فاعلةً في ضمان الأمن والاستقرار بالبلاد،ساهرةً على تخليقِ الحياةِ العامة وشفافيةِ التدبير الإداري،داعمةً لترسيخ البنيانِ الديمقراطي مُسَاهِمَةً في توفير المناخ الملائم للنمو الاقتصادي والاجتماعي وتشجيع الاستثمار وحماية الممتلكات،مدافعةً عن هبة الدولة ومؤسساتها؛وعن الحق والنظام العام وعن استقلال القضاء،وحمايةِ الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور للأفراد والجماعات،نشيطة في التعاون مع المؤسسات.ودعا جميعَ أعضاءِ النيابة العامة إلى التَحَلِّي بالضمير المسؤول الذي اعتبره جلالةُ الملك،في خطاب العرش للعام الرابع عشر،المِحَكَّ الحقيقي لإصلاح القضاء.وأن يحرصوا على تسيير محاكمهم كما يحرصون على بيوتهم ويرعون مرؤوسيهم كما يرعون أبناءهم بالتربية الصالحةِ وإعطاءِ القدوةِ الحسنة والحرصِ الشديدِ على الاستقامةِ والنزاهةِ والتفوق،وأن يقدموا للمتقاضين والمرتفقين الخدماتَ في أسرعِ الأوقات وبالجودةِ اللازمة،بالطريقة التي يُحِبون هم أنفسهم أن تُقدّمَ لهم بها الخدمات في المرافق العمومية.واعتبر الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف بالمملكة مسؤولين عن سير النيابات العامة بدوائر نفوذهم وعن سلوك كافة أعضائها،ودعاهم جميعاً إلى خدمة المواطنين وحماية التوازن بين الحقوق والواجبات،وطلب منهم أن يكونوا عيناً للعدالة والإنصاف تتصدّى لكلّ العيوبِ والانحرافات وتقاوم كل الاختلالات،وأن يتصدوا بحزم لكل مظاهر الإخلال والانحراف،وأن يفتحوا مكاتبهم لاستقبال المشتكين ويهتموا بشكاياتهم وأن يخصصوا لذلك أحسنَ العناصر البشرية التي تساعدهم،وأن يفتحوا جسوراً للحوار البَنَّاء مع كل الشركاء في ميدان العدالة للتغلب على المشاكل ولتحسين ظروف العمل وتطوير أساليبه،وخص بالذكر الهيئات القضائية ومصالح كتابة الضبط وهيئة الدفاع ومصالح الشرطة القضائية والسلطات المحلية والمنتخبة والهيئات المهنية المنظمة العاملة في مجال العدل وهيئات المجتمع المدني.
عدم تفعيل مقترحات العام المنصرم لتحسين العمل القضائي وتنفيذ السياسة الجنائية
سبق وأشار تقرير رئاسة النيابة العامة العام الماضي إلى جملة من الصعوبات التي واجهت عملية نقل الصلاحيات بين وزير العدل والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بوصفه رئيسا للنيابة العامة،أهمها تأخر صدور الإطار القانوني الناظم لعملية نقل الصلاحيات،ضعف الموارد البشرية،عدم جاهزية المقر،وغياب اللوجستيك.كما سبق للمنشور الأول لرئيس النيابة العامة أن حدّد أولويات السياسة الجنائية في حماية الأشخاص والممتلكات،وحماية الأمن والنظام العام،وحماية الأخلاق العامة والحريات والحقوق الفردية،ومحاربة الفساد المالي،وحماية الاستثمار والمناخ الاقتصادي والاجتماعي،وحماية الصحة العامة ومحاربة المخدرات (…).وسطرت العام الماضي الآفاق المستقبلية لتطوير عمل النيابة العامة،حينما اختتمت تقريرها برصد الصعوبات والإشكاليات التي تعترض سير النيابة العامة.كما قدمت مجموعة من المقترحات والتدابير والإجراءات التي تراها رئاسة النيابة العامة مناسبة لتذليل الصعوبات وحل الإشكاليات،الأمر الذي سيؤدي إلى تحسين العمل القضائي والتفعيل الأمثل لتنفيذ السياسة الجنائية.
على المستوى التشريعي،اعتبر التقرير أن بعض أهداف السياسة الجنائية ما تزال متوقفة على بعض التعديلات التشريعية المرتقبة،وعلى رأسها تعديل القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية،وهي التعديلات المعول عليها من أجل الاسهام في ترشيد الاعتقال الإحتياطي،والتخفيف من تضخم المتابعات القضائية،تسريع وتيرة تجهيز الملفات،وتوفير الإطار القانوني لإجراء المحاكمات عن بعد وحلّ معضلة نقل المعتقلين إلى المحاكم،وتنظيم وسائل البحث والإثبات الجنائي المعتمد على الوسائل التقنية والعلمية،وتعميم التبليغ الإلكتروني.وعلى المستوى المؤسساتي،أكد التقرير على غياب أو عدم كفاية البنية المؤسساتية المواكبة لعمل النيابة العامة،وفي هذا السياق أوصى بتوسيع الطاقة الاستيعابية للمستشفيات المخصصة لتنفيذ الأحكام القضائية المتعلقة بانعدام المسؤولية الجنائية بسبب خلل عقلي حيث يتعذر على النيابات العمومية تنفيذ الأحكام في هذا الشق نظرا لانعدام أسرة بالمستشفيات المذكورة؛وضرورة تطوير البنية المؤسساتية المعدة لاستقبال الأطفال والتي يتم فيها تنفيذ تدابير الحماية والتهذيب؛والحاجة إلى توفير مراكز كافية لمعالجة الادمان على المخدرات حتى تتمكن النيابة العامة من تفعيل آلية الإيداع بغاية العلاج والتي يكفلها القانون.وعلى مستوى الموارد البشرية،سجل التقرير النقص الحاد في عدد قضاة النيابة العامة وكذلك ضباط الشرطة القضائية،مقترحا في هذا المجال رفع عدد قضاة النيابة العامة بحدود 400 قاض،وجعل نسبتهم توازي 33 بالمائة من مجموع القضاة،ودعم تخصصهم في المجال المالي والالكتروني والأسري والتجاري.وعلى مستوى اللوجستيك،توقف التقرير عند الحاجة إلى تطوير البرنامج المعلوماتي لتتبع القضايا لدى النيابات العامة والمحاكم لضبط أهداف السياسة الجنائية،مقترحا في هذا المجا،ضرورة تحديث أساليب تنفيذ المقررات القضائية؛وتمكين رئاسة النيابة العامة من الاطلاع على النظام المعلوماتي المركزي لتدبير الملفات القضائية الزجرية،وذلك لتتبع السياسة الجنائية بفعالية وسرعة.
تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة برسم عام 2018
قدم رئيس النيابة العامة التقرير الدوري الثاني حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة برسم عام 2018،المرفوع للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.الحدث الذي يعد الثاني من نوعه منذ دخول قوانين السلطة القضائية حيز التنفيذ عرف حضورا واسعا لممثلي وسائل الإعلام الوطنية والدولية،فضلا عن ممثلي الجمعيات المهنية القضائية،وفعاليات من مختلف مكونات منظومة العدالة،فيما يرسخ السياسة التواصلية التي اختارتها رئاسة النيابة العامة مند تأسيسها.وكشف التقرير عن معطيات هامة وذات دلالات اجتماعية تتطلب الدراسة والتمحيص،وسرد التقرير أيضا معطيات حول سير أداء النيابة العامة،وطنيا ودوليا،ودورها في الدبلوماسية الموازية وتبادل الزيارات وعقد الاتفاقيات وغيرها،كما تطرق التقرير إلى دور التواصل في توضيح دور النيابة العامة وسط الجدل الذي أثير بداية تشكيلها وتخوفات من «تغولها»،بما قد يعصف بحقوق المجتمع،وهو ما ساهمت حملة التواصل في توضيحه للصحافة ومن خلالها للرأي العام،كما أشار التقرير السنوي أيضا إلى حل الإشكالات حول صيغة تقديم التقرير أمام غرفتي البرلمان وطريقة ذلك وحسم المشرع والمجلس الدستوري في فك طلاسم كل الخلافات التي ظهرت في البداية.
وبلغ مجموع القضايا المسجلة بالمحاكم أزيد من ثلاثة ملايين ومائة وثلاثة وثمانين ألفا،وهو رقم مهول بالمقارنة مع عدد السكان،إذ تقارب النسبة عشرة في المائة من المغاربة وصلوا حدود التماس المباشر مع العدالة.ووصل عدد الشكايات الرائجة على الصعيد الوطني بمختلف المحاكم 314.533 بمعدل 568 شكاية سنويا لكل قاض من قضاة النيابة العامة بالمحاكم العادية للمملكة.وتمارس النيابة العامة مهام أخرى لم يتناولها هذا الإحصاء،مثل تتبع سير المهن القضائية،مهنة المحاماة والتوثيق وخطة العدالة والمفوضين القضائيين والخبراء والتراجمة (ومذكرات الطعن بالنقض والتقارير الاستئنافية).وبلغ عدد الأشخاص الذين وضعوا رهن الحراسة النظرية أزيد من 400 ألف يضاف إليهم مَن تم الاحتفاظ بهم في الأماكن المخصصة للأحداث (18488حدثا)،عدد زيارات أماكن الحراسة النظرية 249.19 (بمعدل 28 زيارة لكل قاض من قضاة النيابة العامة بالمحاكم الابتدائية)،وعدد الزيارات للمؤسسات السجنية 844،عدد زيارات مستشفيات الأمراض العقلية 120،وعدد الأوامر بإغلاق الحدود وسحب جواز السفر 1823،وغيرها..
ومن جهة أخرى،بلغ في نهاية عام 2018 مجموع قضاة المملكة 4176 قاضيا،من بينهم 1046 قاضيا من قضاة النيابة العامة وبينهم 168 قاضية و878 من القضاة الذكور.ويشكل عدد قضاة النيابة العامة معدل 3 قضاة لكل 100 ألف مواطن،يقل 4 مرات عن المعدل الأوروبي والبالغ 11.8 قاضي نيابة عامة لكل 100 ألف مواطن،وهو ما يؤثر عمليا على أداء قضاة النيابة العامة ويرهق كاهلهم ويعود سلبا على مستوى إنفاذ العدالة.وتراوحت أعمار قضاة النيابة العامة بين 30 وأكثر من 65 عام،إذ أن حوالي 14 بالمائة منهم يزيد سنهم عن 60 عاما وحوالي 24 بالمائة منهم يتراوح سنهم بين 50 و60 عاما،بينما يتراوح سن 21 بالمائة منهم بين 40 و50 عاما،وحوالي 37 بالمائة منهم يتراوح سنهم بين 30 و40 عاما،وحوالي 4 بالمائة يقل سنهم عن 30 عاما،وهذا ما يعني أن 45.61 أن من قضاة النيابة العامة يقل سنهم عن 50 عام وأن حوالي 40 بالمائة منهم يقل سنهم عن 40 عاما.
رغم الدور الأساسي الذي منحه الدستور للسلطة القضائية والأدوار الاجتماعية للنيابة العامة فإن الواقع يؤكد العجز الكبير في العنصر البشري والإرهاق المادي والمعنوي الذي يعاني منه قضاة النيابة العامة،زيادة على ضعف الميزانية التي لا تتعدى 86 مليون درهم تشمل كافة المناحي بما فيها الاستثمار،وهو ما يتطلب جهدا على مستوى توفير الموارد البشرية الكفؤة وكذا الموارد المالية،لأن العدالة كأسمى تعبير لاحترام حقوق الإنسان بكافة تعبيراتها لا تحتمل التأجيل.وكشفت النيابة العامة في تقريرها السنوي لعام 2018،أن رئاسة النيابة العامة عاجزة بالمطلق عن تنفيذ برامجها القضائية التي تتطلب نفقات،بحيث أن الموارد المالية المرصودة للنيابات العامة لدى مختلف محاكم المملكة مسجلة ضمن بنود وزارة العدل،ف”رغم كل الجهود التي ستبذلها رئاسة النيابة العامة في المستقبل،فإن غياب الاستقلال المالي للمصالح الخارجية للنيابة العامة، التي تظل تابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل سيؤدي إلى تعثر تنفيذ البرامج المتوقفة على نفقات مالية لدى النيابات العامة،ولا سيما غياب وجود آلية مباشرة للتنسيق مع رئاسة النيابة العامة”.وانتقدت النيابة العامة ما وصفته بـ”غياب التفعيل الجيد” لمقتضيات الفصل الأول من الدستور بشأن تعاون السلطات،ولا سيما في مرحلة صناعة التشريع.
المصدر: جريدة المنعطف – الاسبوعي
