قراءة في أسباب التوتر التاريخي لعلاقة الريف بالدولة المركزية وأثر ذلك على سيكولوجية الإنسان الريفي

عند تناول العلاقة التاريخية بين الدولة المركزية المغربية ومنطقة الريف، بما فيها الريف الأوسط والكبير، تبرز سلسلة من الأحداث التاريخية الدرامية التي أثرت بعمق على ديناميات هذه العلاقة. هذه الأحداث، التي تركت جروحًا نفسية واجتماعية في وجدان الإنسان الريفي، أسهمت في تشكيل وعي جمعي يتسم بالحذر والتمرد ضد الظلم، نتيجة تراجع الثقة في الدولة كضامن للكرامة، الأمن، الحرية، والتنمية.
على مر التاريخ، شهدت العلاقة بين الريف والدولة المركزية سلسلة من الأزمات التي عززت الفجوة بين الطرفين.
من أبرز هذه الأحداث:
- حملة بوشتى البغدادي أواخر القرن 19، التي شهدت انتهاكات جسيمة ضد قبيلة بقيوة، رغم تعهدات الصلح.
- قمع مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي خلال فترة الحماية الفرنسية، حيث شارك الجيش السلطاني في وأد حركة تحررية ريفية ضد الاستعمار.
- انتفاضة 1958-1959 بعد الاستقلال، التي واجهتها الدولة بقمع عنيف.
- انتفاضة 1984، التي رافقها وصف الملك الراحل لأهل الريف بـ”الأوباش”، مع استحضار قمع الخمسينيات.
- القمع المستمر خلال الثمانينيات، خاصة ضد الحركة التلاميذية.
- تدخلات 20 فبراير 2011، التي أسفرت عن ضحايا ومعتقلين.
- حراك الريف 2017، الذي شهد استشهاد عماد العتابي واعتقال المئات، بما فيهم قادة مثل ناصر الزفزافي ومحمد جلول، في محاكمات افتقرت لمعايير العدالة، مع استمرار عسكرة المنطقة وتقييد العمل الحقوقي.
هذه الأحداث عززت إحساسًا عميقًا بالظلم التاريخي، مما صقل الشخصية الريفية بثلاث سمات أساسية: التوق إلى الحرية والكرامة، الإحساس بالتهميش الممنهج، وإرث المقاومة ضد الظلم.
أفرزت هذه التوترات انقسامًا في النخب الريفية الجديدة:
- نخب انتهازية استغلت الوضع لتحقيق مصالح شخصية عبر التقرب من الدولة، التي سعت بدورها لخلق أعيان جدد في المنطقة.
- نخب نضالية التزمت بالنضال الديمقراطي السلمي لتحقيق مطالب الريف بالكرامة، الحرية، التنمية، والمشاركة في السياسات العمومية، لكنها تواجه الاعتقالات والمضايقات.
- نخب متطرفة، دفعها القمع المستمر، خاصة في أوروبا، لتبني مطالب انفصالية لجزء من الريف، مستغلة دعمًا خارجيًا من دولة معروفة بتوظيف هذه الحركات كورقة ضغط ضد المغرب.
رغم جهود الملك محمد السادس في بداية عهده لتحسين العلاقة مع الريف، إلا أن إرثًا سلبيًا متجذرًا في بنية الدولة المخزنية، مشحونًا بحقد تاريخي، حال دون تحقيق مصالحة حقيقية. فقد عملت قوى متنفذة داخل الدولة على إجهاض المبادرات التصالحية، متشككة في النهج الإصلاحي الذي تبناه الملك في العقد الأول من حكمه.
تثير المقاربة الأمنية المعتمدة في التعامل مع الريف تساؤلات حول صلاحيتها في العقد الثالث من الألفية. ففي 2017، تم اتهام حراك الريف السلمي بالانفصال لتبرير الحصار، القمع، والاعتقالات، مما دفع بعض الشباب نحو التطرف، وأعطى دولة مجاورة فرصة للمناورة ضد المغرب. هذا النهج أسهم في تأسيس حركات انفصالية في أوروبا، مما استدعى استنفارًا إضافيًا لتتبع النشطاء، بدلاً من معالجة جذور الأزمة.
لتصحيح هذا المسار، يتعين على القوى العاقلة داخل الدولة اتخاذ مبادرات جريئة ترتكز على:
- إطلاق سراح معتقلي حراك الريف ووقف متابعة النشطاء في أوروبا.
- إطلاق سراح معتقلي الرأي في المغرب.
- رفع الحصار عن العمل الحقوقي والمدني في الريف وعموم المغرب.
- إطلاق مبادرة مصالحة تقوم على جبر الضرر الجماعي والتنمية الشاملة للريف والمناطق المهمشة، بمنهجية تشاركية تراعي الخصوصيات المحلية.
- فتح نقاشات عمومية حول الديمقراطية، الهوية، الجهوية المتقدمة، وتحديات الحكم الذاتي في الصحراء المغربية.
إن فهم الشخصية الريفية، بقيمها المتمثلة في الحرية، الكرامة، والمقاومة، ومعالجة الإرث التاريخي للظلم، هو السبيل الوحيد لبناء علاقة سليمة بين الريف والدولة، وتجنب تكرار أخطاء الماضي التي قد تهدد الوحدة الوطنية.
د.تدمري عبد الوهاب
طنجة في 26 غشت 2026