قانون المالية 2026: بين طموح “المغرب الصاعد” وتحدي “المغرب بسرعتين

تم تقديم مشروع قانون المالية رقم 50.25 للسنة المالية 2026 في جلسة عمومية مشتركة (مجلسي النواب والمستشارين)، وذلك تطبيقاً لأحكام الفصل 68 من الدستور. وقد تم إعداد هذا المشروع على ضوء التوجيهات الملكية الواردة في خطابي عيد العرش وافتتاح السنة التشريعية بتاريخ 10 أكتوبر 2025، والتي تدعو إلى تسريع مسيرة المغرب الصاعد وإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية.

يأتي مشروع قانون المالية 2026 في سياق دولي يسوده عدم اليقين وصعوبة في استعادة الاقتصاد العالمي عافيته. ومع ذلك، أظهر الاقتصاد الوطني “صموداً كبيراً” مدفوعاً بالإصلاحات، حيث سجل نمواً بـ 4.8% في السنة الحالية، مدعوماً بانتهاش قوي للطلب الداخلي وارتفاع في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر (39.3 مليار درهم حتى غشت 2025، بزيادة 43.4% مقارنة بـ 2024).

وقد استعادت المملكة تصنيفها ضمن فئة “درجة الاستثمار” (Investment Grade) من وكالة “ستاندرد آند بورز” في شتنبر الماضي، مما يعزز الثقة ويسهل الولوج إلى التمويلات الدولية بشروط تفضيلية.

الفرضيات والتوقعات الماكرو اقتصادية لمشروع قانون المالية 2026: تهدف الحكومة إلى تحقيق نمو اقتصادي يقدر بـ 4.6%. وتشمل الفرضيات ما يلي:

  • • معدل التضخم في حدود 2%.
  • • ارتفاع الطلب الخارجي (خارج الفوسفات ومشتقاته) بـ 2.3%.
  • • محصول زراعي في حدود 70 مليون قنطار.
  • • متوسط سعر غاز البوطان يبلغ 500 دولار للطن.
  • • تقليص العجز الميزانياتي ليبلغ 3% من الناتج الداخلي الخام (مقارنة بـ 3.5% المتوقعة في نهاية 2025).

يقوم مشروع قانون المالية 2026 على أربع أولويات كبرى لتجسيد “المغرب الصاعد” الذي يجمع بين العدالة الاجتماعية والتنمية المجالية:

  • الاستثمار العمومي: تخصيص غلاف إجمالي يناهز 380 مليار درهم موجهة لتمويل مشاريع البنية التحتية وفق مقاربة مجالية مندمجة.
  • البنية التحتية: تسريع توسيع المطارات، تعزيز حظيرة الطيران، تمديد القطار فائق السرعة إلى مراكش، وتقوية شبكة الطرق السيارة.
  • الأمن المائي: تخصيص 16.4 مليار درهم. ويشمل ذلك مواصلة بناء 16 سداً كبيراً وبرمجة سدين جديدين، وتسريع مشاريع ناقل المياه بين الأحواض، وتفعيل تحلية مياه البحر بهدف تعبئة أكثر من 1.7 مليار متر مكعب سنوياً.
  • الطاقة والتحول الأخضر: مواصلة تطوير الطاقات المتجددة (التي تشكل أكثر من 54% من المزيج الكهربائي) وتفعيل عرض المغرب في الهيدروجين الأخضر.
  • الاستثمار الخاص: مواصلة تنزيل الميثاق الجديد للاستثمار، حيث تمت المصادقة على 265 مشروعاً استثمارياً بقيمة إجمالية 414 مليار درهم، تستهدف إحداث 65 ألف منصب شغل مباشر و 120 ألف منصب شغل غير مباشر.
  • دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة (TSME/PME): تخصيص مجهود مالي يفوق 2 مليار درهم لدعمها فنياً ومالياً، مع إطلاق برنامج التكوين بالتدرج ليشمل 200 ألف شاب وشابة خلال الموسمين 2025-2026 و 2026-2027.
  • • تهدف هذه البرامج إلى تحقيق تنمية متوازنة وشاملة تستجيب لتعليمات جلالة الملك التي تؤكد على ضرورة سير المغرب “بسرعة واحدة”.
  • • ترتكز المقاربة الجديدة على ثلاثة أبعاد (شامل، مجالي، ومندمج)، وتتوخى ضمان وقع الاستثمارات العمومية على خلق فرص الشغل وتحسين ظروف معيشة المواطنين.
  • • تم تحديد 542 مركزاً قروياً ناشئاً، وسيتم التركيز خلال 2026 على تسريع تنزيل مخططات عمل لـ 36 مركزاً قروياً ناشئاً نموذجياً بكلفة إجمالية تبلغ 2.8 مليار درهم.
  • الحماية الاجتماعية: تم تسجيل 5.3 مليون أسرة في السجل الاجتماعي الموحد (RSU)، أي ما يعادل 19.6 مليون شخص. وتتحمل الدولة اشتراكات 11 مليون مواطن في التأمين الإجباري الأساسي عن المرض (AMO)، بميزانية تناهز 10.5 مليار درهم لعام 2026.
  • الدعم الاجتماعي المباشر: بلغ عدد الأسر المستفيدة حوالي 4 ملايين أسرة. وتم تخصيص غلاف مالي إجمالي يقدر بـ 29 مليار درهم برسم سنة 2026 لهذا البرنامج، مع زيادة القيمة الشهرية لإعانات الأطفال بمبالغ تتراوح بين 50 و 100 درهم.
  • الصحة والتعليم: تم تعزيز المجهود الميزانياتي للقطاعين بغلاف إجمالي يقدر بـ 140 مليار درهم (بزيادة 21 مليار درهم عن 2025)، وإحداث أكثر من 27 ألف منصب مالي جديد.
  • دعم القدرة الشرائية: رصد 14 مليار درهم لضمان استقرار أسعار المواد الأساسية، بالإضافة إلى جهود سابقة بلغت 116 مليار درهم بين 2022 و 2025 لدعم النقل والكهرباء.
  • إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية (LOF): بهدف تحسين نجاعة أداء السياسات العمومية، وإدراج المؤسسات العمومية التي تستفيد من موارد مرصودة أو إعانات الدولة ضمن مقاربة التدبير الميزانياتي القائم على النتائج.
  • إصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية (PEEs): تسريع عملية إعادة الهيكلة وترشيد المحفظة العمومية.
  • استدامة المالية: مواصلة تقليص العجز الميزانياتي إلى 3% من الناتج الداخلي الخام، وخفض معدل المديونية إلى حدود 66% من الناتج الداخلي الخام.

بالرغم من الأرقام الكبيرة والبرامج الطموحة التي جاء بها مشروع قانون المالية 2026، فقد أثار البرلمانيون العديد من الانتقادات التي تشير إلى اختلالات في التنزيل والتصور، وهي اختلالات تُعد تحديات رئيسية تواجه نجاح المشروع الجديد:

نظرياً وتطبيقياً:

  • تحرير الأسعار والمضاربة: يرى نواب أن السبب الحقيقي لغلاء الأسعار يكمن في السياسات المتبعة عبر تحرير الأسعار وما نتج عنه من جشع ومضاربات، وليس فقط الأزمات الخارجية (كوفيد، حرب أوكرانيا، الجفاف) التي “سئم” المواطن من سماعها.
  • غياب الضوابط الكافية: هناك دعوات لـ تسقيف الأسعار وضبط لوبيات التصدير بقوانين صارمة لمنح الأولوية للأسواق الوطنية.
  • المراقبة غير الفعالة: تُنتقد الحكومة بتركيز المراقبة على “الأسواق الصغيرة” بدلاً من الضرب بيد من حديد على “المضاربين والمحتكرين الكبار”.
  • هشاشة المنتج والمستهلك: يواجه المنتج والمستهلك معاً وضعاً صعباً، حيث “يلوء كاهله بمتطلبات القفة” والمنتج يكون “على أبواب الإفلاس”، مما يشير إلى أن منطق المنافسة والعرض والطلب لا يكفي لتبرير الوضع.

تطبيقياً:

  • فشل البرامج السابقة: تم وصف برامج التشغيل السابقة مثل “فرصة” و”أوراش” بأنها “فاشلة” أو أنها وفرت “فرصاً مؤقتة” و”دعماً اجتماعياً” بدلاً من مناصب شغل مستدامة.
  • جودة مناصب الشغل: الإشكال الجوهري لا يكمن في العدد، بل في جودة المناصب واستمراريتها؛ حيث يشتكي الشباب من ضعف الأجور وغياب الحماية الاجتماعية وطبيعة العقود المؤقتة.
  • التأخر في التنزيل: أشار النواب إلى التساؤل حول مدى واقعية خارطة الطريق الجديدة للتشغيل التي تتحدث عن آفاق 2030، خصوصاً وأنها ترتبط بـ “أحوال الطقس بالمطر”.
  • معاناة المقاولات الصغرى: بالرغم من أهميتها كقاطرة للتشغيل، فإن المقاولات الصغرى والمتوسطة تواجه إفلاسات متزايدة (16,000 مقاولة أفلست في 2024)، نتيجة صعوبات التمويل، حيث تطلب البنوك “ضمانات كبيرة” مما يعطل الشباب والمقاولين. كما سجل النواب تأخراً في تفعيل آليات الدعم الموجهة لهذه المقاولات.

نظرياً وتطبيقياً:

  • المركزية المفرطة للاستثمار: هناك “تفاوت كبير” و”غياب العدالة المجالية” في توزيع الاستثمارات، حيث تتركز أغلبها في المدن الكبرى (محور طنجة-الجديدة)، وتهمل مناطق أخرى كبرى كجهة الشرق.
  • إهمال المناطق الداخلية والقروية: أشار النواب إلى أن المناطق الجبلية والقروية (مثل إقليم الخنيفرة وبولمان) لا تحظى بالنصيب الكافي من الاستثمارات، وأن الاستراتيجيات القطاعية يجب أن تخصص وحدات صناعية مرتبطة بالمنتوجات المجالية لهذه المناطق.
  • فشل المراكز الجهوية للاستثمار (CRIs): لم يحقق نقل الصلاحيات من المركز إلى الجهات أهدافه بعد، بسبب “تباطؤ الإجراءات الإدارية” و”تعقيد التشريعات”، وضعف التنسيق بين المتدخلين، مما يؤثر على جذب الاستثمارات إلى الجهات الأقل جاذبية.
  • البيروقراطية وتضارب المصالح: المستثمر يعاني من كثرة المساطر الإدارية والأوراق، والمحسوبية والفساد، وصعوبة التمويل، ومشاكل العقار (السلالي)، وضعف التنسيق بين مؤسسات الدولة.

تطبيقياً:

  • ملف التقاعد: لم يتم إحراز تقدم في الإصلاح العادل لنظام التقاعد، حيث يعاني المتقاعدون من “معاشات هزيلة جداً” لا تتجاوز في حالات كثيرة 1000 درهم، ولا يواكبها الزيادة في الأجور لرفع الحد الأدنى للمعاشات.
  • صعوبات الدعم الاجتماعي: تواجه المناطق القروية والنائية تحديات تقنية ورقمية في الولوج لنظام الدعم الاجتماعي الموحد (RSU)، بسبب انعدام الإنترنت وضعف التغطية، بالإضافة إلى ارتفاع “المؤشر الاجتماعي” الذي أدى إلى إقصاء الكثير من الأسر الفقيرة.

الخلاصة

يظهر مشروع قانون المالية 2026 طموحاً كبيراً في تعزيز الاستثمار (380 مليار درهم استثمار عمومي) وتوطيد أركان الدولة الاجتماعية (140 مليار درهم للتعليم والصحة)، وتجسيد العدالة المجالية من خلال الجيل الجديد لبرامج التنمية الترابية.

ومع ذلك، تتركز الانتقادات البرلمانية على فجوة التنفيذ؛ حيث يُنظر إلى البرامج الحكومية الحالية على أنها متعثرة وغير مستدامة (كالتشغيل)، ويُتهم المشروع بعدم تقديم حلول جذرية لمعضلة غلاء المعيشة الناجمة عن سياسات تحرير الأسعار، بالإضافة إلى استمرار التفاوت المجالي والبيروقراطية القاتلة التي تعرقل الاستثمار الخاص، مما يضع تحديات كبيرة أمام الحكومة لتحقيق الأهداف المرجوة من مشروع قانون المالية 2026.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!