فضيحة قانونية مذبحة دستورية مجزرة لمهنة الصحافة مهزلة سياسية نكبة للسلطة الرابعة

كل هذه العناوين الصحفية صالحة للحديث عن مشروع قانون إعادة هيكلة المجلس الوطني للصحافة، الذي صادق عليه المجلس الحكومي هذا الصباح، ووافق عليه الوزراء ورئيسهم الذي يعلمهم منهجية الخروج عن الدستور والقانون وأبجديات الممارسة الديمقراطية.
وذهب مشروع القانون هذا بأشلائه الممزقة إلى البرلمان، حيث هناك أغلبية مطيعة، أليفة، تصوّت مغمضة العينين، صمّاء الأذنين، خرساء اللسان…
ماذا جرى؟
ببساطة، الذي جرى هو أن وزارة بنسعيد، الذي لا يملك بضاعة في الثقافة ولا في الاتصال ولا في السياسة، وزارته هذه وضعت مشروع قانون لقتل شرعية المجلس الوطني للصحافة، الذي عهد له المشرع بوظيفة التنظيم الذاتي للمهنة، والسهر على تخليقها، ولعب دور الوساطة والتحكيم، وإصدار البطاقات وتطوير المهنية باستقلالية ومهنية.
كل هذه الوظائف، وبعد سنتين من التخطيط والتفكير (والتشلهيب)، أصبحت في خبر كان…
ملاحظات على مشروع القانون الجديد:
هذا مشروع قانون غير دستوري، وإذا ما طعن فيه فريق برلماني في إحدى المجلسين أمام المحكمة الدستورية، فسيسقط لا محالة، لأنه يضرب الأسس الدستورية والقانونية الآتية:
- يضرب مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون: جعل مشروع القانون الجديد لتنظيم المجلس الوطني للصحافة اختيار الأعضاء السبعة الذين سيمثلون الصحافيين بالانتخابات المباشرة، وجعل تمثيل الناشرين بالتعيين من قبل الهيئة التي يمثلونها دون انتخابات، وهذا مس خطير وجلي بمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون.
- ضرب مشروع القانون مبدأ دستوري آخر هو التنظيم الذاتي المستقل الديمقراطي للمجلس، حيث ينص الفصل 28 من الدستور على ما يلي:
(حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية.
للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة.
تشجع السلطات العمومية على تنظيم قطاع الصحافة، بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، وعلى وضع القواعد القانونية والأخلاقية المتعلقة به).
في حين أن مشروع القانون هذا ميّز بين هيئتين داخله، واحدة ستُنتخب، والثانية ستُعيَّن، وهذا مس بالشرط الديمقراطي لتشكيل المجلس، فالانتخابات هي جوهر الطابع الديمقراطي لأي مؤسسة
٠مشروع القانون الجديد ضرب في الصميم مبدأ “One man, one vote” الذي يعني حرفياً: “رجل (مواطن كان، ذكرًا أو أنثى) واحد، صوت واحد”.
هذا مبدأ قانوني وديمقراطي يُقصد به المساواة السياسية بين الجميع، أي أن لكل مواطن صوتًا واحدًا في الانتخابات، بغضّ النظر عن العرق، الطبقة الاجتماعية، الثروة، الخلفية التعليمية أو القرب أو البعد من مصدر القرار.
أصل العبارة أعلاه ظهر بقوة في منتصف القرن العشرين، خاصةً في الولايات المتحدة، خلال نضال حركة الحقوق المدنية، حيث كان السود والأقليات يُمنعون من التصويت أو يُمنحون حق تصويت جزئي، بشكل رمزي فقط.
وقد استخدمها القاضي الأمريكي( إيرل وارن) في الستينيات في المحكمة العليا الأمريكية للدفاع عن مبدأ المساواة في التمثيل الانتخابي…
ومعناها أن كل صوت انتخابي يجب أن يكون متساويًا من حيث القيمة والتأثير، أي لا يُسمح بأن تكون أصوات بعض المناطق أو المجموعات أو الأشخاص أو الجمعيات ذات تأثير أكبر من غيرها في اي انتخابات.
لكن مشروع القانون الجديد هذا جعل من مؤسسات النشر الورقي والإلكتروني إقطاعيات كبرى، حيث منح “للكبيرة” عشرين حصة في التمثيل، ولـ”الصغيرة” حصة واحدة فقط… وكل هذا بناء على معيار رقم المعاملات التجارية!
فإذا كنت رئيس مقاولة “مرفحة”، مرضي عنها من قبل شركات الإعلانات ومن قبل السلطات، فأنت تملك حظوظًا تفوق عشرين مرة حظوظ رئيس مقاولة صغيرة أو متوسطة، ولو كانت مهنية ومستقلة، للوصول إلى عضوية المجلس الوطني للصحافة…
ومن ثم تتحكم في رقاب زملائك، وتُمرّر أجندة جهات معادية لحرية الصحافة، مقابل تعويض عن المهمة سيكون مجزيًا ولا شك…
. مشروع القانون هذا خرق أيضًا خاصية معروفة من خصائص القاعدة القانونية، يعرفها كل طالب في السنة الأولى من كلية الحقوق، وهي أن القاعدة القانونية عامة، مجردة وملزمة، مثل الميزان الذي لا يميز بين البضائع التي توضع فيه، بل يعطي الوزن بدقة وحياد.
وهذا المبدأ يعني أيضًا أن المشرّع لا يفصل القوانين على مقاس جهة دون أخرى، وهو ما تجاهلته وزارة الاتصال، وسايرتها الحكومة وأمينها العام، “الخبير” في القوانين ومطابقتها للدستور؛ حيث فصلوا قانونًا على مقاس جمعية ضد فدرالية، في إطار بدعة جديدة عنوانها التمييز بين الصحافيين:
“هذا مرضي عنه، مدعو إلى الحفلة والزردة، وذاك مغضوب عليه، محروم من الدعوة إلى العرس!”
الفدرالية المغربية لناشري الصحف هي الأكثر تمثيلية، لكنها مستهدفة، في حين أن الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين هي الأغنى، والأكثر حظوة لدى السلطة.
وقد وُلدت هذه الجمعية أصلًا من الحاجة إلى “إعلام ما بعد الحقيقة”، إعلام وظيفي مكلف بمهمة خاصة، وهي تكفين ما تبقى من صحافة، ودفنها في مقبرة جماعية بلا جنازة وتشكيل حائط صد في مواجهة الصحافة الحقيقية الحرة والمستقلة …
مشروع القانون هذا جاء لضرب روح المجلس الوطني للصحافة، وضرب شرعيته ومصداقيته، وتهيئته ليلعب دورًا مناقضًا للأهداف المعلنة له…
لقد أضافوا لسلطته الزجرية سلطة التوقيف المؤقت لصدور الصحف والمجلات الورقية والإلكترونية، وهذا اختصاص حصري للقضاء، لا تتمتع به حتى الحكومة نفسها، ولا يوجد أي مجلس تنظيم ذاتي للصحافة في العالم يملك هذه السلطات الزجرية كلها!
نحن أمام مخطط مدروس لإشعال الحروب الأهلية داخل قبيلة الصحافيين، ولتفويت مهمة قمع ما تبقى من الصحافة المهنية، على قلتها، إلى مجلس يحمل زورًا صفة “الوطني” وصفة “الصحافي”.
الكتاب يُقرأ من عنوانه… وهذه الحكومة تسارع الزمن السياسي للإفراج عن كل نص قانوني منزوع الدسم الإصلاحي، في آخر شهور عمرها السياسي، كأنها تسلط علينا عقابًا جماعيًا، لا لشيء سوى لأننا حلمنا قبل 14 عامًا بربيع موعود بزهور تحول ديمقراطي.
حلمنا فقط…
ولا حول ولا قوة إلا بالله.