فاطمة الإفريقي: رسالة إلى صحفي سجين… قْطْعُوا لِنا الحْسْ..

لا أدري كيف تقيسون الزمن في السجن؟، هل بأشعة الشمس مثلنا؟ أم بصوت خطوات الحراس.؟
وهل الصباحُ صباحٌ عندكم، أم هو ليل ممتد؟
أتمناك سالماً مطمئناً، وأن تكون قد استعدت بهجتك الساخرة من الحياة بعد أن فقدت الأمل في كل شيء: في الانصاف المفترض، الحكمة المحتملة، الأعياد، الزملاء، النقابة، المجلس، الأرض، والسماء…أكاد أرى حجم العذاب ومرارة الخيبات المتكررة التي تجرعتها وأنت تتعلق بخيوط الأمل. الآن، بعد كل هذه السنين الجافة، أتوقع أنك بحال أفضل بعد أن أدركت الدرجة الصفر من الأمل، أو اليأس “المرح” بتعبير الفيلسوف الفرنسي “سبونفيل”، أظنك آمنت مثلي بأن الأمل فخ، وبأن اليأس هو الخلاص، هو الطمأنينة، هو الحرية.
ربما تتساءل كيف حالنا ونحن أحرار؟، أو بتعبير أدق كيف حالنا ونحن خارج بناية السجن؟، في الحقيقة الوضع ملتبس ويصعب وصفه، فمند اللحظة التي امتلكتُ فيها الشجاعة لأكتب لك هذه الرسالة، وأنا أنقب في كتب اللغة عن عبارة تكون بليغة في وصف هذا السكوت المرتعش في الحلق، وتكون كثيفة في التعبير عن حيادنا القاسي، وتكون دقيقة في التقاط زوايا صورة هذا التمثال الذي أصبحناه، وتكون شاعرية في رسم هذا الانطفاء في العيون حين ننظر الى بعضنا، وتكون ساطعة في إلقاء الضوء على بشاعة الخذلان ورهبة الصمت ؛ فلم أجد أبلغ من هذه العبارة في لغتنا العامية: “قطعوا لنا الحس”..
نعم، لم ينجحوا في إخراسنا فحسب، بل برعوا في قطع نَفَس الهمس الخافت للإحساس، ففذنا ذاكرة لغة الحواس، لا نرى، وان رأينا، نرى الباطل حقًّا. لا نسمع، وان سمعنا، نسمع دقات متشابهة للطبول المتعددة والمتناسلة. لا نتكلم، ومن ينطق، يقول كلاماً أخرساً وبلا معنى يشبه الخشب. لا نغضب، وإذا ما انتفض أحدُنا يوماً، فإنه ينفجر بشجاعة منقطعة النظير في وجه زميله، نستقوي على بعضنا بعدوانية، ربَّما نفعل ذلك كتعويض نفسي عن شعورنا الداخلي بالذنب وبالعجز.
صارت أناملنا بلا بصمات، وبلا توقيع. تعطَّلت حواسنا الخمسة، والحاسَّة السادسة، وحسُّنا النقدي، وحسُّنا الأخلاقي، نضُب الحسَّ الإنساني فينا، صرنا بلا قلب ولا رحمة، وبلا دوق.. لا نميز بين الجمال والقبح، ولا بين الحلو والمر، اختلطت علينا حسابات المكاسب والخسارات وأحجام الفراغ والامتلاء في كأس الوطن. نسير في خط تحريري مستقيم، لا هوية تميزنا عن بعضنا، صرنا صفًّا طويلاً مهذَّبا، ببذلة مُوحدة، وعنوان متشابه العبارات، صرنا مُملّين جداً، نسخاً متطابقة، لا لون لنا ولا وجهة نظر، ولا طعم لنا ولا رائحة…
نحتونا على دائرة السكون، وعلى التواءات الخوف، وعلى انسيابية الخضوع، وتدرج التسلق، وانحناء التملق. صبغونا بلون الرماد، أطفأوا فينا شعلة الشغف وبهجة التباهي بنبل المهنة. بعثروا الأوراق والمرجعيات، صار المشهرون رؤساءَ للجنان الأخلاقيات، والمدافعون عن حرية التعبير مشتبه بهم وخونة، حرّفوا معنى الوطن، صاروا هم الوطن، والوطن هم، من نثر عليهم الورد غانم، ومن تدثر بدفء الصمت سالم، ومن تجرأ واختلف معهم أو انتقد اختياراتهم منبوذ، بل مفقود، نحن من نتكلف برجمه طوعيًا، بلا رحمة، وبحماس شديد، إلى أن يلفظ قلمه النَّفَس الأخير، إلى أن ينقطع فيه الحس.
باختصار شديد، لقد تغيرنا، ولن تميز بيننا حين تعود..
انمحت ملامحنا،
صرنا كما شاءوا،
بل أفضل مما تخيَّلوا،
سبحانك ربّي، كم هم مُبدعون!!!
من حائط الصحفية و الكاتبة المبدعة Fatima Ifriqui
