عاش الملك: طقس النجاة في دوامة السلطة

"من يحب الملك عليه أن يقول له الحقيقة"

محمد الساسي

في عمق الجبال، في القرى النائية، في مدن الهامش والضواحي، يخرج الناس من صمتهم الثقيل. يخرجون كمن يزيح الغبار عن حنجرة ملت منها الكلمات، يصرخون، يتظاهرون، يلوحون بالمطالب. لا شيء غريب في الأمر، سوى أنهم – وهم يطالبون بحقوقهم – يرفعون صور الملك، يرددون “عاش الملك”، كما لو أن الصرخة لا تكتمل إلا بالولاء، وكأن الغضب لا يُسمع إلا إذا كان مرفقًا بآية الطاعة.

هذا المشهد، الظاهر المتناقض، ليس ناتجًا عن جهل أو تناقض داخلي. إنه مشهد مركب، مشحون بتاريخ طويل من الترويض الرمزي، حيث السلطة لا تكتفي بالقهر، بل تصوغ وعي الجماهير عبر طقوس الطاعة، ومسرحيات الولاء، وتقديس “الثوابت”. في المغرب، لا يحتج المواطن كمواطن، بل كـ”رعية” تحاول أن تقول للملك: لسنا ضدك، نحن فقط مظلومون من وكلائك.

المغاربة، ومنذ الاستقلال، لم يُربوا على الاحتجاج الحر، بل على النجاة داخل الاحتجاج. على الكلام المغلف، على لغة تُخاطب السماء ولا تصطدم بالعرش. هذه ليست فقط سياسة، بل ثقافة، ونظام رمزي أنثروبولوجي، يُنتج مواطنًا لا يطالب، بل “يترجى”، لا يواجه، بل “يتوسل الإنصاف”. فصورة الملك هنا ليست فقط رمزًا سياسيًا، بل وسيطًا مقدسًا، مثل “السلطان” في المخيال الجماعي الذي بيده الرحمة، العفو، والفتوحات.

لكن خلف هذا الطقس، هناك نظام متكامل يشتغل: المخزن لا يُقمع فقط، بل يُربي الخوف، يُفخخ الكلمات، يُحدد سقف الغضب. يسمح لك بأن تصرخ، لكن بشرط أن تختم صرختك بـ”عاش الملك”. يتركك تقول ما تشاء عن الفقر، التهميش، الفساد، لكنه لا يسمح لك بأن تطرح السؤال الحقيقي: من يحكم؟ من يقرر؟ من المسؤول؟

حين تتجاوز هذا الحاجز، حين تخرج من طقس الطاعة، فإنك تصبح خطيرًا. وهنا نفهم لماذا حراك الريف، بكل وطنيته وسلميته، كان مقلقًا. لم تُرفع فيه صور الملك، ولم تُطلب رحمته. الريفيون – بوعي سياسي عميق – حملوا الدولة مسؤوليتها كاملة، ولم يقبلوا بمنطق التفويض الرمزي. قالوا بوضوح: “نحن نحتج على الدولة، بما فيها رأس الدولة.” لم يتوسلوا، بل طالبوا. لم يناجوا، بل واجهوا. ولذلك كان العقاب قاسيًا.

أما حراك آيت بوݣماز وهو نسخة من حراكات أخرى، فكان أكثر “انضباطًا”. الناس فيه حملوا صور الملك، وطالبوه بالتدخل، خاطبوه بالاحترام المقدس، واستعطفوه. لم يتجاوزوا الطقس، بل أدوه بإتقان. لذلك، كان التعامل معهم “أكثر مرونة”، لكن أيضًا مشروطًا. فالمخزن يستجيب أحيانًا، لكنه لا ينسى. وكل استجابة، في عرفه، تُقابل بسؤال: من سمح لكم بالاحتجاج؟ من حرضكم على الخروج؟ ومن أعطاكم الجرأة على المطالبة؟

إنه منطق السوق السياسي السلطوي: لا شيء يُمنح مجانًا. حتى الحقوق تُقايض. وحتى الصمت يُشترى.

وهنا تنقلب المعادلة. فرفع صورة الملك لم يعد فقط علامة ولاء، بل صار ضريبة وقائية، تُدفع سلفًا لتفادي العقاب. “عاش الملك” لم تعد صيغة حب، بل آلية نفسية للنجاة، وتعبير عن خوف متجذر، يشكل بنية الوعي الجماعي المغربي.

لكن، إلى متى؟
هل يمكن أن يستمر الناس في أداء هذا الطقس للأبد؟ هل سيظل الخوف أقوى من السؤال؟ هل سيبقى الملك في المخيال الشعبي كائنًا لا يعلم، وكل شيء يحدث باسمه فقط دون علمه؟ ألا يُنتج هذا الخطاب، نفسه، إعفاءً خطيرًا للسلطة من المسؤولية؟

المواطن المغربي ليس كائنًا بسيطًا، بل حامل لذاكرة ثقيلة، نشأ وسط مؤسسات تعيد إنتاج الخوف والولاء، لا المساءلة والجرأة. حتى حين نطق الملك يومًا بالسؤال الجوهري: “أين الثروة؟”، لم يجبه أحد. لأنهم اعتادوا أن يصمتوا أمامه، أو يبرروا له، أو يقولوا: “”الملك زوين، دايرين به الخايبين

ولكن، حتى هذه المعادلة بدأت تتآكل بصمت. شيء ما يتغير في العمق. لا بسبب الجرأة، بل بسبب اليأس. واليأس، حين ينضج، لا يطلب، بل يُطالب. لا يبرر، بل يُسائل. لا يرفع الصور، بل يرفع الخطاب.

سيأتي يوم، وحين تتكرر الخيبات، لن يعود الناس يرفعون الصور. لن يكتفوا بأن “يطلبوا” من الملك، بل سيخاطبونه مباشرة. ليس بلغة الاستعطاف، بل بلغة المحاسبة. لن يقولوا “عاش الملك”، بل سيسألون: أين الملك؟ وماذا فعل؟ ولماذا صمت؟

سيأتي يوم يُعاد فيه ترتيب العلاقة بين الحاكم والمواطن. يوم تتحول فيه صورة الملك من رمزٍ بعيد إلى مسؤول حاضر. يوم ينطق فيه الشعب لا ليستعطف، بل ليُشارك، ليُحاسب، ليقول: نحن من يمنح الشرعية، ونحن من يطالب بالحقيقة.

وذاك اليوم، قد لا يأتي بصخب، بل بهدوء قاتل. في صمتٍ طويل يسبق العاصفة. في نظرةٍ صلبة، في جملةٍ واحدة، في حراكٍ صغير. لكن معناه سيكون واضحًا:
الخوف سقط. والوعي بدأ يتكلم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!