ضربة قضائية: المحكمة الدستورية تسقط مواد أساسية من قانون المسطرة المدنية الجديد لحماية استقلال القضاء وحقوق الدفاع

أصدرت المحكمة الدستورية قرارًا هامًا بتاريخ 4 غشن 2025، قضت فيه بعدم مطابقة عدد من المواد في القانون رقم 23.02 المتعلق بالمسطرة المدنية للدستور، مما يشكل خطوة حاسمة لضمان حماية المبادئ الدستورية وعلى رأسها استقلال السلطة القضائية وحقوق الدفاع والأمن القضائي. جاء هذا القرار بعد إحالة القانون من قبل السيد رئيس مجلس النواب في 9 يوليو 2025 للبت في مدى مطابقته للدستور.

سياق القرار وأهميته يتألف القانون المحال من “بيان للأسباب” و644 مادة موزعة على أحد عشر قسماً، تغطي مبادئ عامة، واختصاص المحاكم، والمساطر أمام محاكم الدرجة الأولى والثانية، ومحكمة النقض، وطرق التنفيذ، ورقمنة المساطر القضائية وغيرها.

وأكدت المحكمة الدستورية أن إحالة القانون، الذي يتكون من 644 مادة، لم تتطرق إلى مآخذ محددة، مما جعل عمل المحكمة يركز على التحقق من إقرار النص وفقًا للإجراءات الدستورية وتحديد المقتضيات غير المطابقة.

كما أشارت المحكمة إلى أن المشرع الدستوري يهدف إلى تحقيق التكامل بين الرقابتين القبلية والاختيارية في إطار الدفع بعدم دستورية القوانين.

وأوضحت المحكمة أن مراجعتها ركزت فقط على المواد والمقتضيات التي بدت لها بشكل جلي وبيّن أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له. كما أكدت على أن الإجراءات المتبعة لإقرار القانون، بما في ذلك التعديلات التي أدخلها مجلس المستشارين لتصحيح خطأ مادي، كانت مطابقة لأحكام الدستور.

المواد التي قضت المحكمة بعدم دستوريتها وأسباب ذلك:

1. المادة 17 (الفقرة الأولى): قضت المحكمة بعدم دستورية هذه الفقرة التي كانت تمنح النيابة العامة سلطة طلب إبطال أي مقرر قضائي نهائي يمس بالنظام العام، دون تحديد حالات محددة. واعتبرت المحكمة أن هذا يمنح النيابة العامة والجهة القضائية سلطة تقديرية غير مألوفة، مما يمس بمبدأ الأمن القضائي ويضعف حجية المقررات القضائية النهائية الملزمة للجميع بموجب الفصل 126 من الدستور.

2. المادة 84 (الفقرة الرابعة) والمواد المحيلة عليها: رأت المحكمة أن هذه الفقرة وما أحالت عليه من مواد (97، 101، 103، 105، 123، 127، 173، 196، 204، 229، 323، 334، 352، 355، 357، 361، 386، 500، 115، 138، 185، 201، 312، 439) غير مطابقة للدستور. السبب يعود إلى إقرار صحة تسليم الاستدعاء بناءً على مجرد تصريح شخص بأنه وكيل أو عامل لصالح المطلوب تبليغه، أو تقدير المكلف بالتبليغ لسن الساكنين، إضافة إلى إسناد مهمة تقدير عدم تعارض مصالح الأطراف للمكلف بالتبليغ. هذه الصياغة، التي تستند إلى الشك والتخمين بدل اليقين، تمس بحقوق الدفاع ومبدأ الأمن القانوني.

3. المادة 90 (الفقرة الأخيرة): قضت المحكمة بعدم دستورية هذه الفقرة التي نصت على إمكانية حضور الأطراف عن بعد في الجلسات. ورغم أن الدستور لا يمنع الحضور عن بعد، إلا أن المشرع لم يستنفذ صلاحيته في تحديد الشروط والإجراءات والضمانات اللازمة لحماية حقوق الدفاع ومبدأ علنية الجلسات، مثل قبول الطرف المعني بالحضور عن بعد، والتواصل المتزامن وثنائي الاتجاه، وسلامة وسرية المعطيات المتبادلة.

4. المادتان 107 (الفقرة الأخيرة) و364 (الفقرة الأخيرة): اعتبرت المحكمة أن منع الأطراف من التعقيب على مستنتجات المفوض الملكي للدفاع عن القانون والحق، قبل حجز القضية للمداولة، يشكل قيدًا غير مبرر على حق الدفاع. وأكدت أن هذا لا يضمن تكافؤ وسائل الدفاع بين أطراف النزاع، مما يجعل المادتين غير مطابقتين للفصل 120 من الدستور الذي يضمن حقوق الدفاع أمام جميع المحاكم.

5. المادة 288: قضت المحكمة بعدم دستورية هذه المادة بسبب خطأ مادي في الإحالة على مادة أخرى (أحالت على المادة 284 بدلاً من 285). واعتبرت أن هذا يخل بمتطلبات وضوح ومقروئية القواعد القانونية التي يفرضها الدستور.

6. المادة 339 (الفقرة الثانية): قررت المحكمة عدم دستورية هذه الفقرة التي نصت على ضرورة تعليل القرار في حالة رفض طلب التجريح، لكنها لم تذكر التعليل في حالة قبول الطلب. وأكدت المحكمة أن الفصل 125 من الدستور أوجب تعليل الأحكام على إطلاقها دون استثناء، مما يجعل هذه الفقرة غير مطابقة للدستور.

7. المادتان 408 و410 (الفقرتان الأولتان): قضت المحكمة بعدم دستورية هاتين المادتين فيما خولتا لوزير العدل صلاحية تقديم طلب الإحالة من أجل الاشتباه في تجاوز القضاة لسلطاتهم أو من أجل التشكك المشروع. وأكدت المحكمة أن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية (التي ينتمي إليها وزير العدل) يقتضي عدم إسناد الاختصاصات المتعلقة بسير الدعوى إلا لمن يمارس السلطة القضائية، وهو ما يتحقق في حالة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسًا للنيابة العامة.

8. المادتان 624 (الفقرة الثانية) و628 (الفقرتان الثالثة والأخيرة): اعتبرت المحكمة هاتين المادتين غير مطابقتين للدستور. حيث نصت على أن السلطة الحكومية المكلفة بالعدل (وزارة العدل) تتولى تدبير النظام المعلوماتي ومسك قاعدة البيانات المتعلقة برقمنة المساطر والإجراءات القضائية، مع مجرد “التنسيق” مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة. أكدت المحكمة أن توزيع القضايا وتعيين القضاة هو عمل ذو طبيعة قضائية، ويجب أن يكون تحت تدبير السلطة القضائية وحدها، بما يضمن فصل السلط واستقلال القضاء، حتى وإن كان هناك تنسيق ضروري بين السلطات لتحقيق النجاعة القضائية.

خاتمة: يعكس قرار المحكمة الدستورية التزامها الراسخ بصون الدستور وحماية مبادئه الأساسية، وتأكيدها على أن القانون يجب أن يكون التعبير الأسمى عن إرادة الأمة، مع ضمان حقوق الأفراد وصيانة استقلال القضاء كركيزة أساسية لدولة القانون. وستكون لهذا القرار تبعات مهمة على الصيغة النهائية لقانون المسطرة المدنية قبل إصداره، مما يعزز الثقة في الرقابة الدستورية.

قرار-حول-المسطرة-المدنية-المحكمة-الدستورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!