زياد الرحباني: صوت المقاومة ونبض الواقع

"أنا مش كافر، بس الجوع كافر، أنا مش كافر، بس المرض كافر"، كلماتٌ لزياد الرحباني ليست مجرد أغنية، بل صرخةٌ تحمل وجع شعبٍ ونقدًا لاذعًا لمجتمعٍ تتقاذفه التناقضات

في يوم رحيله، نودّع فنانًا لم يكن مجرد موسيقي أو كاتب مسرحي، بل مفكرًا ساخرًا، مناضلاً سياسيًا، وصوتًا لبنانيًا عكس الواقع بكل مرارته وأمله. زياد الرحباني، ابن فيروز وعاصي، الذي خرج من عباءة الرحابنة ليصنع هويته الفنية الخاصة، ترك إرثًا يتجاوز حدود الفن إلى قلب الحياة.

نشأ زياد في كنف عائلةٍ نسجت حلم لبنان الأخضر، حيث القناطر والمختار والمحبة، لكن دوي المدافع في الحرب الأهلية عام 1975 كشف وهم هذا الحلم. في طفولته، عندما كان في التاسعة، رأى زياد طفلاً يمد يده تحت المطر طلبًا للمال، صورةٌ حفرت في وعيه فكرة الفروقات الطبقية، وزرعت بذور فكره اليساري. هذه اللحظة شكلت نقطة تحول، حيث بدأ يرى العالم بعيونٍ لا تقبل “التفنيص على البشرية”، كما وصف أعمال والده وعمه التي رأى فيها تسويقًا لصورة لبنان مثالية بعيدة عن الواقع.

في سن الثامنة عشرة، واجه زياد والده عاصي وعمه منصور، معتبرًا أن أعمالهما “شغل مع السلطة”، واصفًا رؤيتهما بأنها “غريبة على العقل”.

لم يكن هذا تمردًا شبابيًا فحسب، بل بداية رحلة فنية وفكرية لصياغة صوتٍ يعكس الواقع الأليم. خرج زياد من المنزل في الرابعة عشرة، بحثًا عن استقلاليته، واكتشف أنماطًا موسيقية جديدة كالجاز والسامبا، التي أثرت في أعماله مثل “بالنسبة لبكرا”، ليمزج بين الشرقي والغربي بأسلوبٍ فريد.

الحرب الأهلية كانت محركًا لإبداع زياد، لكنها أيضًا كشفت تناقضاته. في البداية، حمل الأمل بأن “هالقتلة وهالدمار” سيؤديان إلى مستقبل أفضل. انخرط في الصراع السياسي، حتى وصل به الأمر لحمل السلاح، مؤمنًا بمعادلة “الجيش والشعب والمقاومة”. لكن مع تحول الحرب إلى صراع عبثي، تحولت أعماله من الأمل النضالي إلى السخرية المريرة.

ألبوم “أنا مش كافر”، الذي غناه بصوته بعد توقيفه في المجلس الحربي بسبب أغنية “أشرفية وأشرافيك”، كان صرخة ضد الجوع والمرض والظلم، حيث قال: “أنا مش كافر، بس البلد كافر”.مسرحياته مثل “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” و”لولا فسحة الأمل” عكست الحياة اليومية للبنانيين، مركزة على الناس العاديين بعيدًا عن الطائفية. لكنها واجهت نقدًا لعدم وجود “بطل” تقليدي، مما يعكس رؤية زياد التي ترفض الأبطال الفرديين وتركز على الجماعة. في مقالة جوزيف سماحة “لبنان 2003: رفيق الحريري أم زياد الرحباني”، طُرح التناقض بين تفاؤل الحريري وتشاؤم زياد، حيث كان الأخير “يشيل الأمل” في وقت كان الجمهور يتوق إلى التفاؤل الزائف.

لم يكتفِ زياد بنقد الواقع السياسي، بل امتد نقده إلى المشهد الفني. رفض التقليد الرديء للموسيقى المصرية في لبنان، واصفًا إياه بـ”فرانكو آراب” الذي يعتمد على “الطبل وهز الورك”. كما انتقد ظاهرة “إعادة تصدير الثقافة”، حيث تُؤخذ الموسيقى العربية، تُعدّل غربيًا، ثم تُعاد بيعها للعرب بـ”شرعية” مزيفة. رغم ذلك، لم يرَ في عمله قطعًا مع إرث الرحابنة، بل استكمالًا له، مزجًا بين الشرقي والغربي بأسلوبٍ يعكس إتقانه، وهي صفة ورثها عن والده عاصي.

في سنواته الأخيرة، عاش زياد “النهار بتهاره”، كما وصف، مع شعورٍ بقلة الأمل في التغيير. رأى لبنان بيئة نموذجية لازدهار اليسار بسبب الطائفية والوضع المعيشي، لكنه أبدى تحفظات على القيادات اليسارية، واصفًا بياناتهم بـ”المفضوحة”. دعمه لفكرة المقاومة لم يمنعه من انتقاد أداء “حزب المقاومة” داخليًا، مشيرًا إلى أن غلاء المعيشة يسبب “رعبًا أكبر” من التهديدات الخارجية. واجه صعوبة في إنتاج أعمال مسرحية سياسية جديدة، لأن الجمهور يبحث عن التسلية، والصحافة تعتبر مناقشة الطائفية “تكرارًا”، رغم استمرارها كمشكلة مزمنة.

زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان صوتًا للضمير اللبناني، يرفض استغلال الإنسان للإنسان، وينتقد الوهم المغلف بالتفاؤل الزائف. من مسرحياته التي عكست حياة الناس العاديين، إلى أغانيه التي حملت نقدًا سياسيًا واجتماعيًا صريحًا، شكّل زياد جسرًا بين الفن والواقع. رحيله خسارة للفن العربي، لكنه ترك كلماتٍ وألحانًا ستبقى تتردد في قاموسنا اليومي، كما كان هو: ساخرًا، مقاومًا، وحاملاً لفسحة أملٍ رغم كل المرارة.

المصادر:

  • نص “زياد الرحباني: حوارات حول الفن والحياة”، قناة “الجديد” على يوتيوب.
  • مقتطفات من حوارات زياد الرحباني حول الموسيقى السياسية والرحابنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!