رواية الشيخ بيد الله حول قضية الصحراء “مكر التاريخ وهفوات التدبير”

كاتب المقال: محمد مستعد

يتناول كتاب “الصحراء .. الرواية الأخرى” مسار محمد الشيخ بيد الله كرجل سياسي اشتهر، أساسا، بالتزامه وانخراطه في الدفاع عن مغربية الصحراء لسنوات طويلة. وقد اختار عدة مواقع للدفاع عنها: في وسط عائلته وقبيلته، في كواليس الأمم المتحدة، وكوزير، وداخل الأحزاب الإدارية (في حزبي الأحرار والأصالة والمعاصرة).. وفي مواقع أخرى لا يتحدث عنها الكتاب مثل ترؤسه لمجلس المستشارين. وما يفسر صمت الكتاب عن هذا الجانب الأخير مثلا هو أن عنوانه الفرعي هو: “شذرات من مذكرات محمد الشيخ بيد الله”، رغم أن منصب رئاسة مجلس المستشارين هو موقع أساسي للترافع عن ملف الصحراء.

يتناول هذا الكتاب – السيرة الذي جاء في شكل حوار صحفي عدة جوانب توضح التعقد الإنساني والسياسي لقضية الصحراء. وهو تعقد ساهمت فيه عدة عوامل مثل: مخلفات الاستعمار، وعداوة جزائرية عميقة للمغرب نتيجة صراعات جيواستراتيجية(1) ، وصراعات داخلية حول السلطة، و”هفوات” في تدبير هذه القضية حسب تعبير الكاتب. يتعلق الأمر بقضية أدت إلى تفرقة وتشتت العائلات الصحراوية بين وحدويين وانفصاليين، وهو ما عانت منه عائلة الشيخ بيد الله نفسه الذي سيفقد بسببها أمه وأباه وأخاه. هذا الأخير الذي ما يزال عضوا في قيادة البوليساريو.

عاش بيد الله ظروف تنشئة صعبة، فهو مثال للعائلة الصحراوية المشتتة التي قسمها الاستعمار أولا ثم الانفصال ثانيا وسط مجتمع صحراوي يطبعه الترحال. حيث يقول: “بعد المسيرة الخضراء، تفرقت العائلة وأصبح الأمر شبيها بسرب حمام يتشظى عندما يهاجم ببندقية صيد، فيتطاير إلى جهات مختلفة”. ورغم كل تلك الأحداث والتطورات الشخصية الدقيقة، فإننا لا نلمس في حكي بيد الله أي حقد أو ضغينة تجاه الطرف الآخر سواء كان الجزائر أو البوليساريو.

اختار بيد الله أن يتكلم بكثير من الدبلوماسية عما يسميه أجزاء من سيرته الصحراوية في انتظار كتابته لسيرته السياسية كما يعد بذلك في الكتاب. وعموما، تظل شهادات القياديين الصحراويين الذين واكبوا مثله عن قرب هذا الملف وتحدثوا عن كواليسه في سير ذاتية وشهادات قليلة أو غير معروفة للعموم.

يحرص بيد الله على أن يمسك بقوة بناصية الحكي والتحكم فيه أمام أسئلة الصحفي وإلحاحه. ويكشف عن عدد من الجوانب التاريخية والسوسيولوجية حول قيادات البوليساريو وتفاصيل لقاءاتهم الأولى وحياتهم اليومية في عدد من أحياء مدينة الرباط مثل حي أكدال ويعقوب المنصور.. وذلك قبل أن يفكروا في الانفصال ومغادرة المغرب بقيادة الوالي مصطفى السيد الذي قرر في سبعينيات القرن الماضي الالتحاق بليبيا ثم بالجزائر من أجل تأسيس جبهة بوليساريو الانفصالية.

المعطيات التاريخية الواردة حول جيش التحرير لها أيضا أهميتها بالنسبة لفترة أساسية في معركة تصفية الاستعمار الإسباني، وفي الصراع حول السلطة في المغرب بعد الاستقلال. وينحدر بيد الله من أسرة تنتمي إلى جيش التحرير تربى في حضن أحد قادته وهو عمه “حبوها” الذي عاش ظروف انقسامات في صفوف جيش التحرير خاصة خلال معركة “ايكوفيون” Ecouvillon (المكنسة) الشهيرة التي شنها الجيش الفرنسي والإسباني على جيش التحرير في فبراير 1958 وكانت حاسمة لأنها ستعلن نهاية المقاومة المسلحة لتحرير الصحراء على يد جيش التحرير حسب ما يحكي أحد قادة هذا الجيش بنسعيد آيت إدر. ويوضح هذا الأخير أن معركة “ايكوفيون” جاءت للحد من نجاح وتقدم جيش التحرير في العديد من الجبهات في الجنوب، حيث قامت القوات الإسبانية والفرنسية بهجوم مشترك كاسح ومنظم شارك فيه حوالي 40 ألف جندي بمشاركة طائرات ودبابات. ويحكي محمد بنسعيد أيت إيدر أن المعركة خلفت خسائر بشرية كبيرة في صفوف جيش التحرير كما تم حرق عدة قرى وإبادة حوالي 600 من النساء والأطفال والعجزة (2). ومن بين الجوانب الغامضة في هذه المعركة هي أن الجيش الفرنسي استعمل مطاري مراكش وأكادير لجلب الأسلحة والغذاء والدواء علما بأن المغرب كان آنذاك بلدا حصل على الاستقلال في 1956. وهو ما يؤشر إلى أن السماح لطائرات باستعمال مطارين مغربيين لضرب قوات جيش التحرير المغربي قد يكون دليلا على تورط عناصر في النظام المغربي في المعركة. لا يتحدث بيد الله كثيرا عن هذه المعركة إلا أنه يكشف عن معلومات حول ما يسميه مؤامرة على العرش حصلت داخل صفوف جيش التحرير خلال نفس الفترة. وقد رفض عمه “حبوها” الانخراط في تلك المؤامرة. وهو ما أدى إلى مواجهات دامية واعتقالات وتصفيات جسدية عنيفة حسب ما يحكي بيد الله. ويشير في هذا الصدد إلى حملة لتصفية رجال الأعمال في كلميم.

ولد الشيخ بيد الله في خيمة بنواحي مدينة السمارة ودرس بمدينة تيندوف التي كانت خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي جزءا من التراب الجزائري رغم تاريخها المغربي حسب شهادة بيد الله. وبعد تيندوف انتقل للدراسة في مدن عديدة مثل الدار البيضاء وأكادير والرباط التي درس فيها الطب. وهو يعتبر نفسه من المثقفين ويصف نفسه بأحد “رجال الفكر” les gens du livre (ص 89) وكثيرا ما يحرص في حديثه على الاستشهاد بمفكرين مثل ابن خلدون وفولتير وميشيل عفلق.. وهو رجل يتقن عدة لغات: الفرنسية والأسبانية والإنجليزية إلى جانب شغفه بالشعر العربي كما جرت العادة في أوساط المثقفين الصحراويين. وعلى مستوى دلالات الصورة كوثيقة تاريخية، فإن أول صورة يتضمنها الكتاب هي صورة لبيد الله تعود إلى 1962 ويظهر فيها وهو شاب صغير في مدينة تيندوف. وهي صورة تحمل معاني كثيرة.

يتحدث الشيخ بيد الله عن لقاءاته بعدد من قادة البوليساريو مثل محمد بن عبد العزيز و الوالي مصطفى السيد الذي عرفه في طانطان وفي الرباط و قضى معه فترة في السجن في صحراء موريتانيا في مارس 1973 ، لكنه لا يعطي معلومات كثيرة ومفصلة. وعلى مستوى التدبير الدبلوماسي للملف، يورد بيد الله بعض المعطيات غير المعروفة كثيرا، مثل كواليس بعض المفاوضات غير الرسمية التي جرت بين المغرب والبوليساريو، ومنها لقاء وساطة لعبته السعودية بين الطرفين. وقد جرى في مدينة الطائف في السعودية ودام شهرا كاملا شارك فيه بيد الله بتوجيهات من الملك الحسن الثاني، لكن اللقاء لم يثمر عن نتائج ملموسة. ويتميز الكتاب عموما بحذر كبير من البوح بحيث يرفض بيد الله الحديث عن لقاءاته بالملك الحسن الثاني. فعندما سأله المحاور “كم عدد لقاءاتك بالحسن الثاني؟ كان الجواب كالتالي: “عندما أنتهي من الحياة السياسية سأتحدث في الموضوع كما اتفقنا” (ص 191).

وكان بيد الله من المدافعين الأوائل عن مغربية الصحراء سواء وسط الطلبة الصحراويين في الرباط وغيرها من المدن، أو في الأروقة والدبلوماسية. وشارك مع خلي هنا ولد الرشيد ضمن الوفد الرسمي المغرب في الأمم المتحدة لتقديم شهادة أمام لجنة تصفية الاستعمار لتأكيد مغربية الصحراء في 1975 قبل انطلاق المسيرة الخضراء وفي مواعيد دبلوماسية متعددة خلال مساره السياسي الطويل.

المعطيات المتعلقة بمساره الحزبي تبقى عموما مختصرة وتطبعها مساحات من الغموض. والمثال على ذلك هو علاقة بيد الله بنقابة الاتحاد المغربي للشغل التي ترشح باسمها وانتخب في البرلمان في 1977. وفي تلك السنة، يحكي أنه تم منعه من الترشح للانتخابات بمدينة السمارة بدون أن يكشف عن اسم الجهة التي ترشح باسمها (حزب؟ نقابة؟..) ولا عن المانع الذي منعه من ذلك. كما يقول إنه لا يدري كيف تم انتخابه وأنه نجح بدون أن يعرف تفاصيل ترشحه ثم نجاحه. ومما قد يفسر هذا الغموض أن حياته كانت مهددة حيث يكشف أنه نقل من السمارة إلى العيون على متن طائرة خاصة من قبل جنرال في الجيش، وهو ما قد يعني أن ترشيحه للانتخابات ربما تسبب له في تهديدات من قبل بعض الأطراف السياسية.

بعد دخوله إلى البرلمان، تحدث بيد الله عن انتماءه إلى حزب الأحرار الذي كان قد ولد في حضن السلطة على يد الوزير الأول أحمد عصمان. ورغم أن بيد الله سيخرج لاحقا من هذا الحزب مع بعض المنشقين الذين أسسوا الحزب الوطني الديمقراطي، فإنه لا يشرح أسباب ذلك الخروج. فهو يمدح أحمد عصمان ولا يتحدث عن أي خلافات مع هذا الأخير بررت ذلك الخروج. لكنه يوضح قائلا: “فهمت بعد ذلك أن خلفيات تحكمت في الانشقاق الذي تولد عنه ما سمي بحزب العروبية” بدون أن يشرح مضمون تلك الخلفيات. ويشير المؤرخ عبد الله العروي إلى إن وزير الداخلية السابق إدريس البصري هو الذي كان وراء ذلك الانشقاق.

بشكل عام، يرجع الشيخ بيد الله أسباب النزاع حول الصحراء إلى عوامل عديدة منها سياق الحرب الباردة، وعدم الاستقرار السياسي وأدوار الجزائر وليبيا والمعارضة المغربية في الخارج بقيادة الفقيه البصري. كما يؤكد على ارتكاب أخطاء في التدبير والتواصل من قبل السلطة والأحزاب. ومجموع تلك العوامل يلخصها بالحديث عن: “مكر التاريخ وهفوات التدبير”. ومن بين الأخطاء التي يكشفها في هذا الصدد أنه خلال لقاء جمع شبانا صحراويين مطالبين بتحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني مع مسؤول بارز في حزب مغربي قام بشتم الصحراويين ونعتهم بنعوت عنصرية، فقال لهم: “دعونا نجد حلا لمشاكلنا في الشمال. لا نريد 100 ألف مقمل pouilleux إضافيين”. لم يكشف بيد الله عن اسم هذا المسؤول، لكنه ذكر بكثير من الاحترام أسماء قادة الأحزاب كان هؤلاء الشبان الصحراويين يجرون لقاءات معهم آنذاك مثل: علال الفاسي عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعتة. وللإشارة، فإن الزعيم الحزبي الوحيد الذي اختار بيد الله أن يضع صورة له في هذا الكتاب هو عبد الواحد الراضي القائد السابق لحزب لإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وفي هذا السياق، لا يتحدث بيد الله عن حدث تاريخي معروف وكان مؤثرا في مسار الملف والإجماع الوطني، وهو رفض حزب الإتحاد الاشتراكي إجراء استفتاء في 1981 حول مغربية الصحراء وهو موقف تسبب في اعتقال زعيم الحزب عبد الرحيم بوعبيد آنذاك.

على مستوى “سوء التدبير” أيضا، يكشف بيد الله عن لقاء جمع في الرباط وزير الداخلية السابق إدريس البصري مع مجموعة الصحراويين بعضهم سيشكلون النواة الأولى للبوليساريو من بينهم الوالي مصطفى السيد. وخلال ذلك اللقاء، تعرض الصحراويون لمحاولة مساومة ورشوة من قبل إدريس البصري الذي قال لهم: “واش خاصكم شي حاجة؟”. وقد علق بيد الله على هذه الجملة – العرض قائلا: ” هذه العبارة كانت محبطة ورأينا فيها نظرة دونية. لكنها مع الأسف ستتكرر مرارا في مناسبات كثيرة”. كما تحدث عن مؤشرات أخرى ل”سوء التدبير” تتمثل في اعتقالات تعسفية تعرض لها بعض الصحراويين بسبب مواقفهم مثل حملة قمع لشبان صحراويين طالبوا باستعادة المغرب للصحراء خلال مظاهرات بمدينة طانطان، ومنهم من دخل معتقل تازمامارات السري مثل أخ محمد عبد العزيز، وهي أحداث واعتقالات سبق أن كشفت عنها هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها الشهير في 2004.

يثير هذا الكتاب العديد من الأسئلة حول وقائع من التاريخ المغربي الراهن. وسبق أن نشرته جريدة “المساء” في إطار سلسلة الحوارات الهامة التي أجرتها وما تزال تجريها مع عدد من الشخصيات السياسية والثقافية الوطنية. وسيكون بالتأكيد مفيدا نشرها في كتب خاصة لتصبح رهن إشارة القراء والباحثين.كما سيكون مفيدا أن يحظى مثل هذا الكتاب بنقاش عمومي حول قضية وطنية حساسة لها أهميتها.

—————————

هوامش:

  • مقال جريدة “لوموند” يوضح خلفيات الصراعات حول ما يسميه بعض الباحثين “الصحراء المغاربية”https://www.lemonde.fr/afrique/article/2022/05/17/le-sahara-maghrebin-du-reve-a-la-desillusion_6126535_3212.html
  • “هكذا تكلم محمد بنسعيد… الجزء الأول”. ص128. منشورات مركز محمد بنسعيد أيت إيدر للأبحاث والدراسات. 2018.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى