“رحلات الشاطر”: قصة الحسن الوزان بين الهوية والتكيف الثقافي

في إصدارة جديدة تضاف إلى المكتبة العربية، أصدرت مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية الترجمة العربية لكتاب “رحلات الشاطر: مسلم من القرن السادس عشر بين عالمين” للباحثة الأمريكية ناتالي زيمون ديفيس، بترجمة المترجم المغربي محمد جليد. يعد هذا العمل إضافة نوعية للقارئ العربي، حيث يفتح آفاقاً لفهم التفاعلات الثقافية والدينية في القرن السادس عشر، من خلال قصة الحسن الوزان، الرحالة والدبلوماسي الذي عاش حياة استثنائية عبر القارات والأديان.
من هو الحسن الوزان؟
الحسن الوزان، المعروف أيضاً باسم ليو الأفريقي، شخصية تاريخية فريدة ولدت في غرناطة حوالي عام 1494، بعد سقوط الأندلس، ونشأ في مدينة فاس بالمغرب. عاش الوزان حياة حافلة بالتحولات، حيث تنقل بين العالمين الإسلامي والمسيحي في عصر النهضة الأوروبية، وهي فترة تميزت بالصراعات الدينية والطموحات الاستعمارية. أُسر الوزان عام 1518 على يد قراصنة مسيحيين في البحر الأبيض المتوسط، ليجد نفسه في روما تحت رعاية البابا ليو العاشر، حيث اعتنق المسيحية وأصبح جغرافياً مرموقاً بفضل كتابه الشهير “وصف إفريقيا”.
يبرز الكتاب، الذي ترجمه محمد جليد بدقة، قدرة الوزان على التكيف مع السياقات المتغيرة، حيث استطاع توظيف ذكائه ومعرفته الواسعة بالثقافتين الإسلامية والمسيحية لصياغة هويات متعددة. ويصف محمد الفران، نائب مدير مؤسسة آل سعود، الوزان بأنه “شخصية شاطرة”، بل “محتالة” بالمعنى الإيجابي، حيث استخدم مكره وبراعته الفكرية للبقاء والنجاح في عالم مضطرب.
دراسة في الهوية والتبادل الثقافي
لا يقتصر كتاب “رحلات الشاطر” على سرد سيرة ذاتية، بل يقدم تحليلاً عميقاً لمفهوم الهوية في سياق القرن السادس عشر. تستكشف ناتالي زيمون ديفيس، المؤرخة المتخصصة في أوروبا الحديثة المبكرة، كيف تمكن الوزان من التنقل بين العوالم المتصارعة، مستفيداً من معرفته باللغات العربية واللاتينية والإيطالية، ومن تجاربه في المغرب وغرناطة وروما. تسلط ديفيس الضوء على مرونة الوزان الثقافية، حيث قدم نفسه تارة كمسلم وتارة كمسيحي، متكيفاً مع متطلبات كل بيئة.
يحلل الكتاب كتاب “وصف إفريقيا”، الذي ألفه الوزان عام 1526، كمثال على استراتيجياته السردية. فقد قدم الوزان صورة مفصلة عن شمال إفريقيا للجمهور الأوروبي، مستفيداً من موقعه المزدوج كمسلم سابق ومسيحي حالي. يُعتبر هذا العمل، الذي تُرجم إلى عدة لغات أوروبية، مرجعاً أساسياً للباحثين الأوروبيين في القرن السادس عشر، حيث قدم معلومات جغرافية وثقافية دقيقة عن القارة الإفريقية بنسبة دقة تقدر بحوالي 80% مقارنة بالمصادر الأخرى آنذاك.
أهمية الترجمة العربية
تكمن أهمية ترجمة “رحلات الشاطر” في تمكين القارئ العربي من التعمق في فترة تاريخية حاسمة، شهدت تفاعلات معقدة بين الإسلام والمسيحية. يوفر الكتاب رؤية نقدية لمفهوم الانتماء، وهو ما يتردد صداه في السياقات المعاصرة التي تشهد هجرات وتفاعلات ثقافية متزايدة. كما يعزز النقاش حول دور الأفراد في تشكيل التاريخ، حيث يظهر الوزان كشخصية استثنائية تجاوزت الحدود الجغرافية والدينية.
تشير إحصاءات المكتبة الوطنية المغربية إلى أن الإصدارات المتعلقة بالتاريخ الثقافي شهدت زيادة في الطلب بنسبة 15% خلال السنوات الخمس الماضية، مما يعكس اهتماماً متزايداً بهذا النوع من الأعمال. ومن المتوقع أن يسهم الكتاب في إثراء الدراسات الأكاديمية في الجامعات المغربية، حيث يتم تدريس مواضيع التفاعل الثقافي في أكثر من 20 برنامجاً دراسياً.
خاتمة
يعد كتاب “رحلات الشاطر”، بترجمته العربية، دعوة لإعادة التفكير في مفاهيم الهوية والتكيف في عالم متغير. من خلال قصة الحسن الوزان، تقدم ناتالي زيمون ديفيس دراسة ملهمة عن قدرة الإنسان على التغلب على التحديات الثقافية والدينية. يشكل هذا العمل جسرًا بين الماضي والحاضر، ويبرز أهمية الحوار بين الحضارات في بناء مستقبل أكثر انفتاحاً. إن هذا الكتاب ليس مجرد سيرة، بل شهادة حية على مرونة الروح الإنسانية في مواجهة التقلبات التاريخية.
