“خيال اللغات”: جسور ثقافية عبر حوار إدوارد غليسّان وليز غوفان

الرباط – ماي 2025
في رحاب معرض الكتاب الدولي للنشر والكتاب (SIEL) بالرباط، حيث تتجلى الكلمات كجسور تربط بين الثقافات، وقف الأديب والمترجم المغربي ذ. محمد مستعد أمام كتاب “خيال اللغات”، حسب ما كتب على حسابه في الفايسبوك، وهو ترجمة عربية رائعة أنجزها بنفسه عن دار “توبقال” العريقة التي تحتفل هذا العام بمرور أربعين عامًا على تأسيسها.

في تلك اللحظة، شعر مستعد بقوة الكلمات التي تحمل في طياتها أفكار الشاعر والمفكر المارتينيك=ي إدوارد غليسّان، التي تناولها الكتاب عبر حوارات عميقة أجرتها الباحثة ليز غوفان معه، لتسافر هذه الأفكار عبر اللغات والثقافات، وتبني جسورًا بين عوالم مختلفة.
حوار فكري ينبض بالحياة
يأتي كتاب “خيال اللغات”، الصادر عن دار “غاليمار” الفرنسية ضمن سلسلة الأدب، في شكل حوار غني وممتع جمع بين ليز غوفان وإدوارد غليسّان على مدى سنوات (1991-2009). يغوص غليسّان في هذه الحوارات في أعماق اللغة، الهوية، الثقافة، والعولمة، مستندًا إلى تجربته ككاتب مارتينيكي يكتب بالفرنسية، ورؤيته الفلسفية التي تجمع بين الشعر والفكر. الكتاب، الذي نقله إلى العربية ذ. محمد مساعد، يقدم للقارئ العربي فرصة استثنائية لاستكشاف عالم غليسّان الفكري، حيث تتداخل الأفكار وتتشابك لتصنع نسيجًا معرفيًا غنيًا.
اللغة كخيال وحياة
يتمحور الكتاب حول مفهوم “خيال اللغات”، وهو فكرة مركزية في فلسفة غليسّان. يرى غليسّان أن الكاتب، حتى لو كتب بلغة واحدة، لا يمكن أن ينفصل عن تأثير اللغات الأخرى وخيالاتها التي تشكل جزءًا من وعيه وإبداعه. يرفض غليسّان فكرة الكتابة الأحادية اللغة، مؤكدًا أن اللغة في جوهرها تعددية، تحمل في طياتها أصداء ثقافات وتاريخ وحيوات مختلفة. من هنا، يدعو إلى احتفاء بهذا التعدد اللغوي كمصدر للإبداع والتواصل بين الشعوب.
الأنتيلانية والتخليق: رؤية للعالم
يسلط الكتاب الضوء على مسار غليسّان الفكري والشعري، متناولًا تجربته ككاتب مارتينيكي يكتب بالفرنسية في سياق استعماري وما بعد استعماري. يشرح غليسّان مفهوم “الأنتيلانية” (Antillanité)، الذي يعبر عن الهوية الكاريبية المتميزة، ومفهوم “الكل-العالم” (Tout-Monde)، الذي يرى العالم كفضاء مترابط يتشكل عبر العلاقات والتبادلات. وتبرز فكرة “التخليق” (Créolisation) كمفهوم محوري في الكتاب، حيث يؤكد غليسّان أن الثقافات في العالم المعاصر لم تعد “نقية”، بل هي نتاج تفاعل مستمر وتحول متبادل، ينتج عنه إبداعات جديدة وهويات متجددة.
فكر منفتح ومعقد
تكشف الحوارات عن تعقيد فكر غليسّان وانفتاحه اللافت. يرفض التصنيفات الجامدة، ويتناول قضايا متنوعة تشمل الأدب، الترجمة، التاريخ، السياسة، وتطور المجتمعات. يدعو إلى التفكير في “العلاقة” (Relation) كقوة دافعة لفهم العالم، حيث تتشابك الثقافات واللغات والتاريخ لتشكل نسيجًا إنسانيًا غنيًا. هذا الانفتاح يجعل من “خيال اللغات” نصًا يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، موجهًا لكل من يهتم بالأدب، اللغويات، الدراسات ما بعد الاستعمارية، وقضايا الهوية في عالم متشابك.
توبقال: أربعون عامًا من الإبداع
إن ترجمة هذا العمل إلى العربية عبر دار “توبقال”، التي تحتفل بمرور أربعين عامًا على تأسيسها، تؤكد التزام هذه الدار بنقل الأعمال الفكرية والأدبية الرائدة إلى القارئ العربي. وقد أسهم ذ. محمد مساعد، بترجمته الدقيقة والأنيقة، في إيصال روح نص غليسّان إلى الجمهور العربي، محافظًا على عمق الأفكار وشاعرية اللغة. في معرض الكتاب بالرباط، بدا الكتاب وكأنه دعوة للتأمل في قوة الكلمات التي تسافر عبر اللغات والثقافات، لتبني جسورًا فكرية وإنسانية.
خاتمة: دعوة للتأمل والتواصل
“خيال اللغات” ليس مجرد كتاب، بل هو رحلة فكرية وشعرية تدعو القارئ إلى استكشاف العلاقة بين اللغة والهوية، والثقافة والعالم. من خلال حواراته العميقة، يقدم إدوارد غليسّان رؤية ملهمة لعالم يحتفي بالتعدد والتخليق، ويدعو إلى بناء جسور بين الثقافات.
وبفضل ترجمة من طرف ذ. محمد مستعد عن دار “توبقال”، يصل هذا الصوت المارتينيكي إلى القارئ العربي، ليواصل إلهامه وتحفيزه على التفكير في عالم أكثر انفتاحًا وإبداعًا.
