تونس: الحكم على راشد الغنوشي بـ 40 سنة سجناً يكشف مدى ديكتاتورية الدولة

بقلم: هالة باجي
نُشر في 1 سبتمبر 2025،
بينما كان يدافع عن فكرة «المسلم الديمقراطي»، يجد زعيم حركة النهضة السابق نفسه، وهو في الرابعة والثمانين من عمره، خلف القضبان. وبالنسبة للكاتبة التونسية هالة باجي، فإن ذلك يبرهن على أن «الحداثيين» في بلادها قد انحرفوا نحو الأيديولوجيا السلطوية.
أربعون سنة سجناً بسبب… «مؤامرة إرهابية»
إن اعتقال راشد الغنوشي والحكم عليه يُعد من أبشع أشكال الظلم التي ارتكبها النظام التونسي، وهو واحد من آلاف الانتهاكات منذ السقوط المدوي في أتون الديكتاتورية.
في 15 أفريل 2023، حضرتُ نقاشاً لجبهة الخلاص الوطني، وهو ائتلاف مقاومين لانقلاب 25 جويلية 2021، وقد كان العديد من أعضائه معتقلين. كانت اللحظة حرجة، لكن الأجواء كانت ودّية، بلباقة تكاد تعود إلى زمن آخر. كان كل فرد يتحدث بلا محظورات، مدفوعاً بشغف للبحث عن الحقيقة والعدالة، ومسنوداً بالثقة الهادئة التي تمنحها الصداقة وسط أعمق المخاوف.
كان راشد الغنوشي حاضراً، صامتاً، منصتاً. وفي النهاية دُعي للتدخل. تكلم بصوت منخفض، بنبرة طبيعية، أحياناً مازحة، وفق نسق صارم. لم يكن خطاباً وعظياً، ولا موعظة متشددة، ولا اجتهاداً لاهوتياً أجوفاً، بل كان فكراً فلسفياً. أنا التي لا أطيق الخطب الدينية، كنت أصغي بكل جوارحي لحجج هذا العقل الديكارتي.
في تلك الليلة، ألقى راشد الغنوشي خطاباً «حداثيًّا» بكل معنى الكلمة. تحدث برباطة جأش عن العداء الموجه ضد الانتقال الديمقراطي. ورغم ما تعرض له من افتراءات، كان يفضل العفو عن المسيئين حتى لو كان ذلك على حسابه. لقد آمن بالحرية أكثر من أن يمنعها عن أحد. رفض الأساليب التعسفية التي ذاق مرارتها هو وأمثاله. عرض عقيدته التعددية: قبول التنوع السياسي، الذي بدونه لا يمكن أن يتحقق سلم مدني. جميع التيارات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من العلمانيين إلى المتدينين، لهم حق المشاركة في الديمقراطية.
لكن في اليوم التالي، كانت الصدمة! نشرت الأخبار أنني كنت شاهدة على «مؤامرة» لـ«خونة» كانوا يحضرون «مخططاً إرهابياً» ضد «أمن الدولة»، بهدف إشعال «حرب أهلية». الدليل على الجريمة؟ حوار سقراطي حول الحرية. سقراط حُكم عليه بشرب السمّ، أما راشد الغنوشي فقد اعتُقل ليلاً في مداهمة مسلحة، أثناء عشاء عائلي، حُرم من محاميه، جُرّ دون مذكرة توقيف إلى أماكن مهينة، وأُجبر طوال الليل على الجلوس على كرسي، وهو في الرابعة والثمانين من عمره، في بلد يتباهى بعاداته في توقير الشيوخ. حكم المحكمة: 40 سنة سجناً.
لقد كان الكذب الضخم ضرورياً لتبرير الضربة الضخمة التي وقعت على رؤوس أناس مسالمين. تم تحريف كلام الغنوشي ليعني عكس ما قاله تماماً. اجتماع حضاري صغير صُوِّر على أنه عصابة سرية من المتطرفين المجرمين. لو لم أكن شاهدة مباشرة على ذلك اللقاء، ربما كنت سأصدق هذه الحكاية، مثل عامة الشعب الذي طالما غُذي بالأباطيل. لكنني كنت هناك.
إحدى أبرز الشخصيات الرمزية للسلمية الثورية
أدخلت تونس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) في دستورها الثوري لعام 2014. ووضعت حرية الضمير في مرتبة المبادئ المقدسة لديمقراطيتها. جعلها تسامحها الديني تحظى بتقدير عالمي. كانت الكرامة والعدالة والمساواة بين الرجال والنساء برهاناً على وحدة الجنس البشري. تجاوزت مشاعر الاستعمار. لم تعد هناك خصومة مع الغرب. أصبحت حقوق الإنسان موضوع حماس مشترك.
راشد الغنوشي هو إحدى الشخصيات الأبرز في هذا السلم الثوري. رفض أن يستسلم للكراهية الأيديولوجية، مفضلاً مبدأ العدالة على غريزة الانتقام. هو الذي طورد طوال حياته كمتطرف، كان أول من دعا إلى المصالحة مع خصومه الدستوريين، لتجاوز رواسب الهيمنة الحزبية. بعد فوز حزبه النهضة الساحق في انتخابات 2011، كان بإمكانه فرض قانون الغالب، لكنه لم يفعل، بل اختار التفاوض والحوار. مد يده، فقُيدت بالقيود.
دافع عن الطابع المدني للدولة، التي تحتفظ بالدين في المجال الخاص وتفصله عن مؤسساتها. لم يفرض الشريعة في الدستور، مانحاً حقوق الإنسان الأولوية على العقائد الدينية. لم يكن يريد كهنوتاً للدولة يخلط النبوة بالسلطة. الحرية العامة مكانها البرلمان، وخلاص الروح مكانه المسجد. كرس مؤتمر النهضة سنة 2016 هذا الفصل بين السياسي والديني.
لكن بعد عشر سنوات من الثورة التونسية عام 2011 التي أبهرت العالم، انهارت الوعود الديمقراطية. منذ 25 جويلية 2021، أصبحت الحريات، التي كانت بالأمس مفخرة، موضوع كراهية. حلّت مكان النفوس السخية للثورة صيحات الأنانية والبغضاء. خطاب مسموم أظلم قلوب الناس وأربك عقولهم. المجتمع الذي تحرر بشجاعة من العبودية أصابته رغبة وحشية في استعادتها.
واحدة من أنقى انتفاضات القرن الحادي والعشرين، التي نأت بنفسها عن الفوضى الدموية للثورات، انقلبت ضد عبقريتها السلمية، ودهورت مثالها المتحضر، وألقت بنخبها المستنيرة في هاوية الشهداء. كيف نفسر ذلك؟
كيف قضى «الوطنيون-الحداثيون» على الديمقراطية
حين أعادت الثورة التونسية الاعتبار الإنساني لأعضاء حركة النهضة، ومنحتهم نصيباً عادلاً في الشأن العام، لم يقبل «الحداثيون» بذلك قط. لم يحتملوا أن يتقاسموا شيئاً طالما احتكروه ثلاثة أرباع قرن: الدولة. تظاهروا بالقبول، لكن كانت مجرد خدعة. فكرة أن «إسلاميين» هزموهم في الانتخابات وفازوا بصفة «نواب منتخبين» كانت تخنقهم. مجرد أن يتنازلوا لـ«خوانجية» ولو بجزء يسير من «تونسنا» (بمعنى «ملكيتنا»)! صيحات احتجاج من أسياد ضاقوا بالاختلاط مع «الرعاع». لم تخطر ببالهم لحظة حقيقة عنصريتهم المتأصلة.
استغل هؤلاء الوطنيون-الحداثيون الانفتاح الثوري لإحياء الحرب الأيديولوجية بين العلمانيين والمتدينين. انتهكوا القسم الدستوري الذي أنهى الإقصاء والتعصب. معتادون على الحكم منفردين، عاجزون تماماً عن اللعب النزيه، غير قادرين على الاعتراف بشرعية أي حزب آخر، بذلوا كل ما في وسعهم للتخلص من «إسلاميي» النهضة. كيف؟ عبر تصفية النظام الذي يكفل لهم حق الوجود: الديمقراطية.
أُطيح بالدستور كأنه نزوة عابرة. تلاشت الثورة كسراب. عاد التعسف والبطش بأضعاف شراستهما. جاءت الاعتقالات لتكشف عن عملية محو شامل للديمقراطية.
كانت الثورة ترث ماضياً ثقيلاً. فقد تأسس الاستقلال على عبادة الدولة وتغليبها على احترام الفرد. عشر سنوات من الإنتقال الديمقراطي لم تكف لمواجهة عودة السلطوية في شعب فقير متعب، معتاد على السلطة المطلقة، وعاجز عن استيعاب الخلافات. في 25 جويلية 2021، سقط صخر سيزيف مجدداً. سَعِدَت النخب بأن تُسحق. كانت تطالب بدوتشي (دكتاتور مثل موسيليني). ظن الناس أن توقف الديمقراطية كان نعمة. بعض الشعوب لديها استعداد للاستبداد أكثر من الحرية. في أشهر قليلة، أطفأت عصى الدولة المطلقة شعلة الثورة. لم يبق سوى رائحة السلطة القديمة، أولوية غريزة الحكم.
يسمونها «وطنية»، لكنها مجرد شغف مقنع بالقوة. يزداد عدد «الوطنيين» الصاخبين في أزمنة الديكتاتورية. حين تصل أحكام السجن بسبب الرأي إلى عشرات السنين، ندرك أن وراءها حكماً غامضاً ووحشياً للجماهير، إعداماً جماعياً. تنشأ شراكة ملتبسة بين الحشود والدولة القمعية. في الحقيقة، لا يمكن لأي طاغية أن يستمر من دون دعم جماعي، ومن دون لا مبالاة قاسية تجاه معاناة المعارضين، ومن دون حماس قاسٍ للصغار خوفاً وطاعة للكبار. لا تقوم الديكتاتورية على القوة البوليسية وحدها. بل تحتاج إلى رابط عاطفي، شبكة غير مرئية من خضوع شعبي، أشد رسوخاً من العنف المؤسسي. وهذا مؤشر على صعود الفاشية.
الحرية هي الشرط الأساسي للتقدم
لقد لعب راشد الغنوشي دوراً غير معترف به في تاريخ استقلال بلا ديمقراطية. فرضت الدولة الوطنية نموذج تقدم بلا حرية. واليوم يتضح أن الحرية هي الشرط الجوهري للتقدم. بالنسبة للغنوشي، الإيمان الديني ليس عائقاً أمام الحريات. بالنسبة له الإيمان ليس مجرد طاعة عمياء لقوى غيبية، بل هو احترام لا نهائي للإنسان. لقد نشأ في بيئة محافظة، وربما كان من القلة الذين فهموا أنه بالنسبة لغالبية المؤمنين الملتزمين، من المستحيل اكتساب وعي حديث منفصل عن أخلاق شخصية متجذرة في الإيمان.
هذا هو معنى فكرته عن «المسلم الديمقراطي»، أي إسلام مفكر، قائم على حرية الاختيار الفردي، وهذه الفكرة وحدها هي القادرة على مواجهة العنف الظلامي الديني المتطرف من الداخل. أفضل وسيلة لمحاربة العنف الإسلاموي المتطرف، في رأي الغنوشي، هي إعطاء مكانة للفرد المؤمن، لكرامته الأخلاقية كخليفة لله في الأرض. إن «الإسلام الديمقراطي» عند الغنوشي هو امتلاك وإيمان فردي داخلي لفكرة الحرية والعدالة السياسية. فالمسلم الديمقراطي عندما يخرج من المقدس ليمارس الحياة العامة الدنيوية، فهو ينتقل من الطاعة إلى التفكير. وذلك نقيض المتعصب.
لم يضطهد راشد الغنوشي يوماً الملحدين أو اللادينيين أو العلمانيين أو غير الملتزمين دينيا، بينما هم اضطهدوه باسم حداثة الدولة. إن تسامحه مستوحى من عمق إيمانه، الذي لا يفصله عن استعمال العقل المشترك بين البشر، مسلمين أو غير مسلمين. المبدأ الديمقراطي هو الذي يحظر أي عنف ضد حرية كل فرد، بما في ذلك حرية عدم الإيمان.
التقدميّة الوطنية ما بعد الاستعمار هي نقيض للإنسانية
جعلني لقاء 25 أفريل أدرك حجم الداء الذي سمم الحياة الوطنية لعقود: غياب الاعتراف بالدين كقوة محركة داخلية للفرد، ضرورية لأي تقدم حقيقي. كل انسان يغذي روحه كما يستطيع: بعضهم بالفن أو الأدب أو الفلسفة أو العلم أو حتى الإلحاد، والبعض الآخر بالإيمان الديني. صحيح أن من يصرخون باسم الله ينشرون جنون المجازر، وأن النفاق الريائي للتدين الزائف إهانة للعقل الخلاق. يجب محاربة هذه الآفات، لكنها تعود أكثر إلى الجهل والخرافة والفقر والعبودية والمرض الاجتماعي، لا إلى الدين. فالإيمان الإسلامي يحمل أيضاً شعلة داخلية مضادة للاستبداد، معادية للفاشية، تشبه الأخلاق الإنجيلية لحقوق الإنسان التي ألهمت إعلان 1948، أو المقاومة المسيحية التي أسقطت الشيوعية.
المفكر المسيحي جاك ماريتان أسماها «الإنسانية المتكاملة». في ثلاثينيات أوروبا، وقف التيار الشخصاني المسيحي في وجه النازية والشيوعية. أرى شبهاً بين هذا التيار الديمقراطي-المسيحي الذي واجه الفاشية الأوروبية، وبين الشخصانية المسلمة الديمقراطية التي تبلورت مع الثورة التونسية وقاومت الاستبداد العربي.
نعم، نحن الحداثيين، أخطأنا الطريق حين انجررنا إلى الأيديولوجيا السلطوية، إلى خطاب المواجهة بين «الحداثيين المستنيرين» و«الإسلاميين الظلاميين». بحجة أن المحافظين متدينون، اعتبرناهم متخلفين، حمقى. بغرور، بغباء، بعمى، باستخفاف، تجاهلنا أنهم كانوا يحملون الشعلة السرية للحرية. ونحن الذين كنا الحمقى. عجزنا عن فهم هذا الرابط الحميم، الذي لا يوصف، بين المؤمن المسلم وحريته. نحن «المستنيرين» ألقينا بالظلام على القيمة التأسيسية الوحيدة للحداثة: الحرية. الظلاميون هم نحن. لم نفهم حتى معنى الشك الفلسفي والوعي النقدي الذي نتباهى به: الاعتراف بالغيرية، بالإنسانية المشتركة، وهي أساس الحداثة.
إن التقدميّة الوطنية ما بعد الاستعمار نقيض للإنسانية. تأسست على سحق حرية الضمير، على بؤس الفرد الأخلاقي، على عنف الدولة باسم التقدم، على ازدراء الكرامة، على إقصاء الدين إلى ماضٍ محتقر. لقد انفصلت الحياة الأخلاقية عن الحياة الوطنية إلى حد بلغ بنا اليوم درجات غير إنسانية من سوء المعاملة.
لم يعترف الوطنيون-التقدميون يوماً بأنهم شركاء مباشرين في الاستبداد. لقد أنتجت التقدمية الوطنية هذه «الحداثة» المشوهة، المنفصلة عن قيمة الفرد، بلا وعي، بلا ضمير. لم تنبثق عنها أي روح مدنية ولا نور تحرري. لقد فشل الوطنيون-التقدميون فشلاً ذريعاً في تحديث مجتمعهم. الحداثة بلا جدوى، وهمية، إن لم تتشبع بحرية الفرد، إن لم تلمس الوتر الحساس لكل إنسان، بعقله أو بإيمانه.
حين جاء راشد الغنوشي، ليلة إغلاق البرلمان بدبابات الجيش، إلى أبواب قصر باردو لحماية الدستور، منعه جندي واقف معتقدا انه يحمي الشعب. هذه المواجهة تلخص الكارثة الراهنة. لم يشرح أحد لذلك الجندي أن الشعب من دون دستور يفقد وجوده. مقاومة الغنوشي ورفاقه المنكوبين، من الشيوخ والنساء المسنات والمثقفين والحقوقيين ورجال الأعمال والقضاة والمحامين والصحفيين، تذكرني بتضحيات أوائل الشهداء المسيحيين في الإمبراطورية الرومانية، الذين رفضوا عبادة الإمبراطور، باسم الطبيعة الإلهية لكرامة الإنسان. عاقبهم نيرون بتسليمهم للوحوش. وبالقسوة ذاتها يُساق اليوم شهداء الديمقراطية الجدد إلى المعاناة.
هالة باجي كاتبة تونسية. من أبرز مؤلفاتها: «للأسف، تونس: الاكتئاب الديمقراطي» (منشورات «تراكتس»، غاليمار، 2019).