تطور المجتمع البشري من الرتابة الى السرعة الفائقة ومن التباعد المكاني الى التشبيك الرقمي

بمناسبة تنظيم النسخة الأولى لملتقى الشباب الذي أختير له تحت شعار “قادة الغد”، أتقدم بجزيل الشكر لجمعية Positive ولكافة الشركاء الذين ساهموا في إنجاح هذا الحدث المتميز. فلا شك أن موضوع التشبيك هو من القضايا المهمة والمتشعبة التي تلامس جميع المجالات، خاصة في ظل الثورة الرقمية التي نعيشها اليوم، حيث أصبح العالم بأسره عبارة عن قرية، كما أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها تفرض على قادة الغد ضرورة الاستعداد لما هو قادم، والعمل بجد لبناء مستقبل جديد يتسم بالتنمية المستدامة والابتكار.
ولا شك أن التحديات التي نواجهها اليوم تستدعي من الشباب التسلح بالمعرفة والتكنولوجيا والابتكار، ويجب علينا جميعاً أن نكون جاهزين للمساهمة في هذه التحولات بما يعود بالنفع على مجتمعاتنا وأوطاننا.
تعتبر مباريات كرة القدم من أهم الأحداث الرياضية التي تجمع ملايين المشجعين حول العالم. فجمهور الملاعب هو القوة الدافعة وراء اللاعبين، وهو من يضفي على المباراة أجواءً من الحماس والإثارة. وهذا ما يجعلنا نتذكر سريعًا أن كلمة “المجتمع البشري” ليست مجرد حقيقة عددية او إحصائية، بل هي حقيقة دافئة وصاخبة، يعيشها على هذا النحو أولئك الذين اخل مدرجات الملعب. كما يعيشها معهم جماعات او افراد هؤلاء الذين يتابعون المقابلة من خلال التلفاز او أي وسيلة مرئية او حتى الراديو… بمعنى أننا لسنا متحدين فحسب، بل إننا نتشكل من خلال ارتباطنا بالآخرين…
ولكن
لكي تكون هذه التجربة ممتعة وناجحة، أو على الأقل لتحقيق الاستفادة القصوى من هذه التجربة، يجب أن يكون هناك تنظيم جيد لجمهور المباراة، وأن يتحلى المشجعون بروح التعاون والتعايش السلمي.
و التنظيم الجيد يستدعي تخطيط جيد للسلامة والأمن، لمنع الشغب، لتسهيل شراء التذاكر والولوج الى الملعب واختيار المقعد …. وهي عمليات قد لا يقدر الجمهور صعوبتها والجهد الذي قد تتطلبه للسهر عليها، والأكيد انه لا يملك أي فكرة عن التعقيد والتداخل والتشابك فيما بين آلياتها…
مما يجعل من فهم عمليات التشبيك أحد التأثيرات الأولى “لتوسع المجتمع البشري”. ألم تكن الطرق والمسارات ونقاط التقاطع والممرات ونقاط المراقبة، هي الشبكات الأولى؟ أولم تكن هذه هي الشبكات هي الرهانات الأولى في حالة الحروب للغزو والسيطرة؟
عصر التشبيك الرقمي
اليوم وبعد ولوج الرقمنة الى مختلف نواحي الحياة الفردية او الجماعية بل وحتى القطرية والدولية، فيمكن القول أن “التشبيك” الذي يحيط بنا خلق مساحة أكثر كثافة من أي وقت مضى في التاريخ. وسيكون الأمر أسوأ مع دخول حيز التطبيق الأدوات المتصلة les objets connectés .
في فترة قصيرة من الزمن، أصبح 3.5 مليار شخص متصلين بالإنترنت. وهذا أكثر من عدد سكان في العالم في عام 1970! بل أصبح أكثر من ثلث سكان العالم الآن متصلين ببعضهم البعض بشكل فردي!
في الواقع، هناك ما يقرب من ملياري شخص مسجلين على شبكات التواصل الاجتماعي. حتى أن أحدهم يدعي أن لديه مليار مستخدم عبر الهاتف المحمول!
وهذا الشكل من الترابط المتبادل يجعل حديثنا على “اننا امام مفترق طرق” حديثا متجازا اذ نحن امام تشكل حضارة ونمط عيش مختلف تماما عما كان عليه الوضع منذ ان خلق الله الانسان على وجه الأرض.
عام 2012، أنتجت البلازما الشمسية المتدفقة رياحًا محملة بالإشعاع وهي عاصفة شمسية هائلة بقوة لم نشهدها منذ عام 1859. ومر هذا الإشعاع قبل اسبوع من مكان مرور الأرض حينها. أي ان لطف الله انقذنا من كارثة عارمة بفارق أسبوع فقط.
للتذكير فالعواصف الشمسية تتمتع بقدرة كبيرة على تعطيل جميع الشبكات الكهربائية، وقد كان من الممكن أن يؤدي هذا إلى شل جميع الدوائر الكهربائية على الكوكب و”إعادة الحضارة المعاصرة إلى القرن الثامن عشر”، وفقًا لبيان صحفي صادر عن وكالة ناسا.
أتساءل هنا، مع قادة الغد، لو يغرق العالم المعاصر في الظلام وانقطعت عنه الكهرباء ما هي احتمالات انزلاقه على الفور إلى منحدر أبعد من البربرية الأكثر وحشية؟.
هذا التهديد المادي غير المتوقع يسلط الضوء على هشاشة الأنشطة الأساسية في عصرنا الذي تتشابك فيه الشبكات.
ينضاف الى هذا الارتباط الواسع النطاق بالشبكات تسارع انتقال الابتكارات وأساليب الحياة. نتحدث عن الجديد كل يوم.
كمقارنة بسيطة فقد بدأ العصر الحديدي (استعمال الادوات الحديدية) في الأناضول والقوقاز، بالتزامن مع انهيار العصر البرونزي المتأخر، خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد. و انتشرت هذه التكنولوجيا في جميع أنحاء منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وجنوب آسيا بين القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد. مع تسجيل تأخر انتشارها إلى آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى إلى حد ما، لكنها لم تصل إلى أوروبا الشمالية حتى بداية القرن الخامس قبل الميلاد ، أي من تركيا الى فرنسا تطلب انتقال تقنيات استعمال الحديد حوالي 7 قرون.
اليوم مثل هذه الأمور قد تستغرق ساعة واحدة!
إن ظهور الطابعة ثلاثية الأبعاد، المتصلة بمكتبات البرامج اللازمة لتصنيع كافة الأشياء، يرفع تحدي العالم المتصل إلى مستوى لا يمكن تصوره تقريبًا.
مؤخرا، أصبحت الملكية الفكرية القضية الإستراتيجية رقم واحد. وأصبحت البرمجيات والعلامات التجارية والتسميات الخاضعة للرقابة محور الصراعات وموائد المفاوضات.
لن أتناول في هذه المرحلة أيًا من المناقشات الأساسية التي تثيرها كل كلمة من هذه الكلمات. لا أزال في حالة من التفكير البارد فيما يتصل بعلاقات القوة التي تتضمنها. لكن الأكيد بالنسبة إليَ أن الذي يمتلك البيانات، ويتحكم في توزيعها، و يسيطر على محتويات شبكة الشبكات، هو الذي ستكون له الكلمة الأخيرة في مجموعة من الأمور الإستراتيجية بالنسبة للإنسانية جمعاء.
مما يحيلنا على نقاش حيادية الشبكة والمساواة في سرعة الوصول والنشر لجميع الذين يستشيرون وينشرون بهذه الوسيلة. كيف يمكننا أن نقبل أن من يدفع أكثر يكون لديه إمكانية الوصول إلى الشبكة بشكل أسرع؟ ثم نساءل قادة الغد عن حالة شبكاتنا مقارنة بالشبكات الدولية؟.
المدينة التي لا نهاية لها… او اضمحلال الحياة الريفية أمام الحياة الحضرية
إن المساحة الافتراضية شديدة الكثافة للويب تتداخل مع مساحة أخرى بنفس الكثافة والحداثة. وهي اتساع رقعة الجغرافية وارتفاع الكثافة السكانية بالمدن.
على مدى آلاف السنين، كانت حياة الإنسان تتم في مجموعات صغيرة ومعزولة ومتنقلة… ثم مجتمعات فلاحية مستقرة.
في منتصف القرن العشرين، كان 80% من سكان العالم لا يزالون يعيشون في الحقول. أي فقط 20% منهم يقطنون في المدينة. ولكن الأمر لم يستغرق سوى فترة قصيرة للغاية لإفراغ الريف وتشكيل مساحات حضرية هائلة متواصلة.
وبالفعل منذ أقل من خمسين عامًا، عاش 60% من سكان العالم في المناطق الحضرية! وقد وصلت بالفعل إلى 80% في القارة الأمريكية وأوروبا. وهذا ليس كل شيء.
كانت المدن تقع بشكل رئيسي في الشمال، في مجتمعات “متقدمة”. لكن التحضر الحالي يتسارع بشكل خاص في بلدان “الجنوب”. حيث نجد تسع من أكبر اثني عشر مدينة في العالم توجد بالجنوب.
وبهذه الطريقة يتم إلغاء الفوارق الأساسية في ظروف المعيشة على مستوى الكوكب بأكمله في نفس الوقت.
والآن، وبسبب العدد الهائل من السكان، لم تعد الحياة الحضرية خياراً بل أصبحت حقيقة مفروضة. أي ان التحضر أصبح أسلوب حياة، عاداته وتقاليده هي القاعدة لدى الجميع.
عصرنا هو “العصر الحضري”.
وهذا يعني، قبل كل شيء، وجود روابط قوية للغاية بين كل الكائنات البشرية التي ستسكن نفس المنطقة الحضرية/المدينة: فالولادة والعيش والموت ستتطلب آلية اجتماعية أساسية وواسعة النطاق تتركز على متطلبات المدينة.
ولكن المدينة ليست مجرد منطقة مترامية الأطراف. إنها مساحة يعتبر تقاسمها مسألة هيمنة بين أولئك الذين يسكنونها. مما سيجعلها مكانا يعكس التوترات التي يحتويها المجتمع البشري في صراعه حول الهيمنة… والنتيجة سيتسم الوعي العام بالتوترات التي سيحقنها أسلوب الحياة داخل كل مدينة.
الفرد والمواطن
ظاهرة أخرى انتجتها شبكة الشبكات وسيكون لها تأثير على قرارات قادة الغد، هي طغيان الفردانية. أي الشخص الفرد الذي يعرف نفسه بشكل مستقل عن العائلة، اوالمجموعة، اوالطبقة، اوأي شبكة ينتمي إليها في بعض الأحيان بشكل وثيق للغاية. أي شخص يحكم نفسه بنفسه ليعيش لنفسه ومن اجلها فقط.
قد يبدو هذا غريبا. ومع ذلك، فإن الرابط بين انفجار الشبكات وتأكيد الفرد هو رابط ميكانيكي. اذ مع تزايد الأعداد وتعقيد الآليات الاجتماعية، يصبح كل عنصر من عناصر المجتمع البشري أكثر اعتمادًا على العناصر الأخرى خارج المجموعة البشرية التي يتطور فيها.
لقد تم تعريفنا في السابق بحسب روابط مستقرة ومحدودة (حسب الانتماء الجغرافي او السن او الانتماء الاداري او المهني او السياسي او الجمعوي او الرياضي…) وشكل ذلك جزء من معايير وضعتنا في عيون الآخرين وبالتالي في عيوننا… كما كان محددا لروابطنا العائلية، لمكانتنا في الشارع، في المبنى، في التسلسل الهرمي للمهنة.
لكن مضاعفة المدخلات التي تسمح للجميع بالوصول إلى ما يحتاجون إليه والقابلة للتغيير والمتقلبة باستمرار جعلتنا نقر أننا لم نعد نستطيع أن نحدد بشكل نهائي من نحن طوال الحياة.
ينضاف إلى ذلك الانتشار المتزايد والمتغير لأرقام حاملي الحقوق، وأرقام التسجيل، والمعرفات وكلمات المرور، والتي لا يعرف تفاصيلها ومراجعها إلا صاحبها/الفرد مع تنبيهه “بعدم تقاسمها” مع أي كان.
ليس هناك خيار . وهذا لن يتغير على المدى القريب، حيث يستمر العدد والمدينة اللامتناهية في التوسع.
بالموازاة أصبحت القيم السائدة للنجاح الفردي تقوم على حساب سحق الآخرين، وحلت المنافسة مكان العمل الجماعي، واصبح الراتب والسكن معيارا للمكانة الاجتماعية… على عكس ثقافة المكتسب الجماعي والتواضع والمساعدة والتفاني في العمل الخ…. من مرتكزات ثقافة عمرت لعدة آلاف من السنين.
إنها حرب الجميع ضد الجميع. عدد قليل قادر على الانتصار في حين يعيش الأغلبية في حالة من اليأس بسبب الفشل. هل هناك إمكانية تعزيز الوعي بالمصلحة الجماعية في هذا العصر الفقير للروح الجماعية. اختم بسؤال لقادة الغد، كيف ستتمكنون من تحويل الفرد الذي يريد السيطرة على حياته من اجله فقط، الى مواطنا فاعل ضمن الجماعة/الوطن.