تحديات الاختلاف واغتيال الصحافة وتفشي التفاهة في السياق المغربي: قراءة تحليلية شاملة

زينب الجعنين:باحثة في سوسيولوجيا التربية

يشهد المغرب اليوم تحولات اجتماعية وثقافية عميقة تمس البنية الفكرية والرمزية للفضاء العام، إذ أصبح من الواضح أن هناك تراجعا مقلقا في تقبل الاختلاف، وتزايدا مستمرا في أشكال التقييد غير المعلنة لحرية التعبير، مع تنامي مظاهر ما يصطلح عليه بـ”ثقافة التفاهة” التي غزت الإعلام ومواقع التواصل وامتدت آثارها إلى مختلف مفاصل الحياة العامة. هذه الظواهر لا يمكن التعامل معها كحالات معزولة أو مؤقتة، بل تفرض نفسها كأنماط متجذرة تُهدد جودة النقاش العمومي، وتفرض إمكانيات التعددية التي يفترض أن تكون أحد ركائز المجتمع الديمقراطي.

إن رفض الاختلاف في السياق المغربي يتجاوز مجرد التباين في الآراء ليصل إلى مستويات من الإقصاء والتخوين والوصم، سواء في النقاشات السياسية أو القضايا الاجتماعية أو حتى في الفضاءات الثقافية. وقد أفرزت هذه الحالة من الانغلاق تمددًا لخطاب أحادي يُمارس نوعًا من الرقابة الرمزية على الأفراد، مما يخلق مناخًا خانقًا لا يُتيح حرية التعبير الفعلي، رغم ما تنص عليه النصوص القانونية والدستورية. هذه الوضعية تنعكس بشكل جلي في الإعلام، حيث أصبح اغتيال الصحافة الحرة أمرًا واقعًا، سواء من خلال التضييق على الصحفيين، أو عبر مصادرة المواد الإعلامية الجادة، أو بإفراغ المؤسسات الإعلامية من دورها الرقابي والنقدي، وتحويلها إلى منابر لترويج المحتوى الترفيهي أو الخطاب الدعائي الموجه.

لقد ساهمت التحولات الاقتصادية التي مست الإعلام في إضعاف استقلاليته، حيث باتت العديد من المؤسسات الصحفية رهينة لسلطة الإشهار أو لقرارات مموليها من فاعلين اقتصاديين يتداخلون أحيانًا مع السلطة السياسية. هذا الوضع جعل الصحفيين أمام خيارين أحلاهما مر: إما الالتزام بخطوط تحريرية موجهة من الأعلى وإما التهميش أو حتى المحاكمة. وفي الوقت نفسه، يشهد الإعلام المغربي تحولا نحو السطحية، نتيجة التنافس الشرس على نسب المشاهدة والتفاعل، ما دفع العديد من المنابر إلى تبني خطاب “تفاهوي” يخاطب الغرائز ويجذب الانتباه دون تقديم أي مضمون معرفي أو تحليلي ذي قيمة.

أما عن التفاهة، فقد تحولت من هامش غير مؤثر إلى مركز يُنتج الثقافة الشعبية ويُحدد الذوق العام. فالمنصات الرقمية أصبحت حاملة لخطاب سريع، مبني على الإثارة والفرجة، يقدم الحياة كمجموعة من اللحظات الفارغة ويُصوّر النجاح في قالب استهلاكي لا يحتاج إلى معرفة أو تفكير أو جهد فكري. ومن خلال تسويق شخصيات “مؤثرة” بلا محتوى، يتم ترسيخ رموز ثقافية بديلة تُقنع الجمهور بأن التفاهة هي الوسيلة الوحيدة لنيل الاعتراف الاجتماعي. هذا الانزياح في المعايير أصبح يهدد القيم المشتركة، ويفرض منطقاً جديدا في التلقي، يقصي النخب الفكرية ويهمش المثقفين ويروج لصورة نمطية عن النجاح مرتبطة بالاستهلاك والاستعراض لا بالإنتاج أو الإبداع.

كل هذه التحولات تشير إلى وجود خلل في منظومة القيم والمعايير التي تؤطر العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين المواطن والدولة. فعندما تُغتال الصحافة، لا تفقد الدولة فقط صوتا حرا، بل تفقد بوصلتها الأخلاقية التي تنبهها إلى مواطن الخلل. وعندما يقصى المختلف، لا نخسر مجرد رأي، بل نخسر إمكانيات الحوار والتفكير التشاركي الذي به تُبنى الأمم. وعندما تسود التفاهة، لا نتخلى عن الذوق الراقي فحسب، بل نُفكك أسس الوعي الجماعي ونحول الجمهور إلى كائن استهلاكي لا يعترض، لا يُحلل، ولا يُنتج.

إن معالجة هذه التحديات تتطلب قراءة نقدية للسياسات العمومية في مجال الإعلام والتربية والثقافة، كما تستدعي مراجعة عميقة لدور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في بناء وعي جماعي سليم. ينبغي دعم الصحافة المهنية الحرة وتوفير بيئة قانونية واقتصادية تحمي استقلالها، كما يجب الاستثمار في الثقافة والتعليم لتعزيز الحس النقدي لدى الأفراد وتمكينهم من التمييز بين الإعلام الجاد والمحتوى العبثي. من جهة أخرى، يجب أن يتحمل المثقفون والنخب مسؤولياتهم في التأطير والمرافعة، وألا يتركوا الفضاء العام فارغًا أو مستباحًا.

في النهاية، يبقى رهان المجتمع المغربي هو الانتصار لقيم الحوار والاختلاف، والدفاع عن حرية الصحافة، ومواجهة التفاهة ليس فقط عبر النقد، بل بإنتاج بدائل ذات جودة، تحترم عقل المواطن وتُعلي من شأن المعرفة والفكر. إن الديمقراطية الحقيقية لا تُبنى بالشعارات أو القوانين وحدها، بل تُبنى بممارسة يومية للحرية، وقبول للتعدد، وإعلاء لقيمة الرأي المختلف، وبتربية جمالية ترفض السطحية وتُكرّس الذوق الرفيع في كل ما يُقدم للمجتمع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!