تاريخ الطب الحديث في وجدة: رحلة عبر الزمن مع الأستاذ بدر المقري

عبد العالي الجابري – الأربعاء 14 ماي 2025، كلية الطب بوجدة
مساء اليوم، استضافت قاعة الندوات بكلية الطب والصيدلة وطب الأسنان بجامعة محمد الأول بوجدة محاضرة مميزة ألقاها الأستاذ بدر المقري، الباحث والمؤرخ الأكاديمي البارز، تحت عنوان “تاريخ الطب الحديث في وجدة“. هذه المداخلة، التي جاءت بدعوة من جمعية اساتذة الطب بنفس الكلية، لم تكن مجرد عرض أكاديمي، بل رحلة عميقة في ذاكرة المدينة، سلطت الضوء على تطور الخدمات الطبية في المنطقة الشرقية بالمغرب، وأبرزت التحديات والإنجازات التي شكلت هذا الإرث الغني.
الأستاذ بدر المقري، وهو قامة أكاديمية وُلدت في وجدة وترعرعت فيها، وأستاذ الأدب الإسلامي بجامعة محمد الأول، قدم للحضور سرداً تاريخياً غنياً، مؤكداً على أن فهم أي علم يستلزم الغوص في جذوره وتطوره عبر الزمن. وقد استهل حديثه بالتأكيد على أهمية الأرشيف والوثائق كمادة أساسية لفهم هذا التاريخ والحفاظ عليه، مشيراً إلى التحديات التي واجهت المغرب في هذا المجال وتأخر مؤسساته الأرشيفية مقارنة بدول أخرى.

تُعد وجدة، المدينة الحدودية التي وصفها الأستاذ المقري بـ”مدينة الألفية“، مركزًا تاريخيًا وثقافيًا استثنائيًا بفضل موقعها الاستراتيجي وتاريخها الممتد. شهدت المدينة تأثيرات متعددة، من الاحتلال الفرنسي إلى التفاعلات مع الجزائر المجاورة، مما جعلها نقطة انطلاق لتطور الطب الحديث في المنطقة. يؤكد المقري أن فهم العلوم، وخاصة الطب، يتطلب دراسة تاريخها، وهو المنهج الذي اعتمده في بحثه المعمق.
ورغم أن عنوان المداخلة ركز على الطب الحديث، لم يفت الأستاذ المقري التذكير بجذور الطب في الحضارة الإسلامية، مستعرضاً جوانب من إسهامات العلامة ابن رشد. فقد أشار إلى كتابه الفقهي “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” وكيف استنبط منه آراء فقهية ذات صلة بالطب، مما يكسر الصورة النمطية عن التمييز بين الفقيه والطبيب. كما تناول كتابه الشهير “الكليات في الطب“، موضحاً أن مفهوم “الكليات” هنا يعني “المبادئ العامة” التي يقوم عليها علم الطب.
ثم انتقل الأستاذ المقري ليغوص في تاريخ الطب الحديث بوجدة، مركزاً بشكل خاص على دور المستشفيات العسكرية التي شكلت علامة فارقة في تطور الخدمات الصحية بالمدينة. فقد ذكر أن أول مستشفى عسكري أُنشئ في وجدة يعود إلى عام 1907، وكان مرتبطاً بالإدارة الفرنسية. كما استعرض تاريخ مستشفيات عسكرية أخرى مثل مستشفى “سانت ماري” أو “ماريست“، ومستشفى “نيكولاس” الذي تأسس عام 1921، والمستشفى العسكري الأمريكي. ولم يغفل الحديث عن مستشفى “لا زاري“، الذي بدأ كمحجر صحي بعيد عن المدينة وتحول إلى مستشفى عسكري عام 1942.
وقد لفت الأستاذ المقري الانتباه إلى ظاهرة “الكولون الطبي” أو الاستعمار في المجال الطبي، مشيراً إلى التنوع الكبير في جنسيات الأطباء والممارسين الصحيين الذين عملوا في وجدة خلال تلك الفترة، من فرنسيين وإسبان ويونانيين وإيطاليين وحتى كوبيون وبرازيليون وغيرهم.
ولم تقتصر أهمية وجدة على استقطاب الأطباء الأجانب، بل كانت مركزًا لتكوين النخب الطبية المحلية والإقليمية. يبرز المقري أن النخبة الطبية الجزائرية الأولى تشكلت في وجدة، حيث تدرب أطباء جزائريون في المدينة قبل استقلال بلادهم.
ولم يقتصر حديث الأستاذ المقري على المؤسسات الطبية، بل استعرض أيضاً أسماء شخصيات طبية بارزة من وجدة كان لها تأثير كبير. فقد ذكر الدكتور عبد الهادي مسواك، أول أخصائي قلب من وجدة والذي كان طبيباً خاصاً للملك محمد الخامس والحسن الثاني، ومناضلاً وطنياً. كما ذكر الدكتور العربي التهامي، أخصائي قلب آخر من المدينة. بالإضافة إلى ذلك، أشار إلى وجود العديد من العيادات والصيدليات والأطباء والصيادلة الذين تركوا بصمتهم في تاريخ الرعاية الصحية بوجدة.
يؤكد الأستاذ المقري على أهمية الأرشيف كأداة أساسية لتوثيق تاريخ الطب في وجدة. يعبر عن قلقه من تأخر المغرب في تأسيس مؤسسات أرشيفية منظمة حتى عام 2011، مقارنة بدول مثل الجزائر، مما يهدد بفقدان جزء من ذاكرة المدينة. كما روى كيف اعتمد على الوثائق لاستخلاص أسماء الأطباء والمؤسسات الطبية، مثل الصيدليات والعيادات التي ازدهرت تاريخيًا في وجدة.
لذا كرر عدة مرات خلال مداخلته إلى التحديات الجسيمة التي تواجه حفظ التراث الطبي والثقافي في وجدة، أبرزها فقدان “روح” المدينة نتيجة إهمال المعالم التاريخية، مثل أبواب المدينة التي دمرت خلال سياسة التهدئة الفرنسية. يحذر من أن نسيان التاريخ يشبه فقدان الذاكرة، قائلاً: “نستوا ميموا“، ويضيف أن المدينة التي تفقد ذاكرتها تفقد هويتها. لمواجهة هذا التحدي، يقترح المقري مشاريع عملية مثل إنشاء متاحف لعرض التراث الطبي، واستخدام تقنيات حديثة مثل الخرائط ثلاثية الأبعاد لتوثيق معالم المدينة. كما يدعو إلى صيانة المباني التاريخية، خاصة تلك التي تعود إلى الفترة الكولونيالية، لضمان استمرارية الإرث المادي.
نخلص الى أنمحاضرة الأستاذ المقري لم تقتصر على سرد الأحداث التاريخية، بل كانت بمثابة دعوة لإعادة اكتشاف تاريخ وجدة وتقديره. من خلال تسليطه الضوء على شخصيات مثل ابن رشد وتأثيره في الفقه الطبي، إلى جانب إسهامات الأطباء المحليين والأجانب، يبرز المقري التنوع والعمق في التراث الطبي للمدينة. كما ربط بين الماضي والحاضر، مشيرًا إلى أن فهم هذا التاريخ يمكن أن يلهم الأجيال الحالية والمستقبلية في كلية الطب وخارجها.
واختتم الأستاذ بدر المقري محاضرته برؤية طموحة: إنشاء متحف يخلد تاريخ الطب في وجدة، يضم وثائق وصورًا وأدوات طبية تروي قصة المدينة وإسهاماتها. هذه الرؤية ليست مجرد حلم، بل مشروع يتطلب تعاونًا جماعيًا وإرادة مؤسساتية.
وجدة، بتاريخها الغني وتراثها الطبي المميز، تستحق أن تُروى قصتها، وأن يُحفظ إرثها للأجيال القادمة. من خلال جهود باحثين مثل المقري، تظل المدينة حية في ذاكرة أبنائها، ومصدر إلهام لكل من يسعى لفهم ماضيها وبناء مستقبلها.