بين جنازة الأب ورسالة الوطن: دروس من كلمات ناصر الزفزافي

بقلم د. وصفي بوعزاتي

في لحظة إنسانية استثنائية، سمحت إدارة السجون للمعتقل ناصر الزفزافي أن يودّع والده المرحوم عيزي احمذ الزفزافي، وأن يخاطب الحاضرين من فوق سطح منزل العائلة. كلمة قصيرة، لكنها محمّلة بالدلالات، اختزلت تجربة عميقة عاشها الريف وعاشها معه المغرب.

أول ما استوقف في حديث ناصر هو تعريفه الصريح لمفهوم الوطن. قال بوضوح: “نحن أبناء هذا الوطن، ولا أقصد بالوطن الريف وحده، بل كل شبر من المغرب.” هذه العبارة، بما تحمله من شمولية، تشكّل رداً مباشراً على كل من حاول إلصاق تهمة الانفصال ب”حراك الريف”. لقد أكد مرة أخرى أن الحراك لم يكن انفصالياً، بل كان اجتماعياً مطلبياً، وأن انتماءه هو للوطن في كليته.

كما توقف ناصر عند جوهر الخلاف في الأفكار، لكنه أصر أن الهدف واحد: “مهما اختلفنا، ومهما كانت لدينا من أفكار، إلا أنها كلها تصب في مصلحة الوطن.” هنا يضع الرجل فاصلاً بين التباين الطبيعي في الرؤى وبين الولاء للوطن، وهو درس سياسي عميق في زمن تتنازع فيه الأصوات والمصالح.

اللافت أيضاً إشادته بمؤسسات الدولة حين قال: “أشكر إدارة السجون، وعلى رأسها المندوب وكل طاقم الإدارة، على مجهوداتهم الحثيثة من أجل أن أكون حاضراً اليوم بين ذويّ في مراسيم الدفن.” هذه الكلمات تعكس وعياً بأن القطيعة ليست قدراً، وأن لغة الاعتراف المتبادل تبني جسور الثقة أكثر مما تفعل لغة التخوين أو الصدام.

وعن والده الراحل، تحدث ناصر بحرقة الابن وبلغة الرمز الوطني: “كان أبي في الفصل أباً لكل الأحرار والحرائر، ونذر حياته دفاعاً عن الوطن من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى صحرائه.” بكلمات كهذه، يُرفع الراحل من حدود العائلة إلى مقام الذاكرة الجماعية.

أما النقطة الأقوى في كلمته فكانت حين ختم قائلاً: “أنا وكل أبناء الوطن… مستعدون لتقديم دمنا من أجل الوطن… عاش الوطن وعاش المغرب.” إنها صرخة تلخص كل ما دار حوله الجدل: أن الولاء للمغرب لم يكن يوماً موضع شك.

هذه الاقتباسات مجتمعة تؤكد أن حراك الريف لم يكن مشروع انفصال، بل كان بحثاً عن الكرامة في إطار الوطن الواحد. واليوم، بعد مرور كل هذه السنوات، حان الوقت لطيّ هذا الملف عبر خطوة شجاعة تتمثل في إطلاق سراح من تبقّى من معتقلي الرأي على خلفية هذا الحراك. ليس فقط من باب الإنصاف، ولكن من باب إعادة بناء الثقة وتعزيز الوحدة الوطنية.

إن كلمات ناصر الزفزافي في جنازة والده لم تكن مجرد رثاء، بل كانت عرضاً رمزياً لمصالحة وطنية ممكنة. والوطن، كما قال هو نفسه، ليس شعاراً أجوف، بل دم يجري في العروق واستعداد للتضحية من أجله.

عاش الوطن، وعاش المغرب، موحداً قوياً بأبنائه جميعاً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!