بين الإنسانية الحقة وهمجية الإنسان المستلب

محمد العرجوني
غالبا ما نصادف، على بعض المنصات الإلكترونية، بعض المنشورات التي تشيد، استنادا إلى تجارب تاريخية، بما توصلت إليه إرادة الشعوب في تغلبها على الأسياد وعلى المستبدين وعلى المستعمرين الخ…
وبطبيعة الحال، إيمانا منهم بغلبة الخير على الشر، وبانتصارات مهضومي الحقوق، تنتاب أصحاب هذه المنشورات نشوة لا تضاهيها اية نشوة، أمام جرد تلك الانتصارات، خاصة حينما يظهرون تشبعهم بالمادية الجدلية، والفكر الماركسي اللينيني والتروتسكي والجرامشي وهلم نسبة… فنتفاعل معهم بالإيجاب بدافع حب الخير وانتصاره على الشر، وحب الحرية والكرامة للإنسان المقهور.
لكن سرعان ما نضبط اندفاعنا ونسترجع هدوءنا ليتضح لنا أن هذا ما كنا نؤمن به ونعتقده في لحظة انبهار. وهو اعتقاد تغلب عليه عاطفة مؤدلجة. حيث كنا نتوقف عند “فكرة الانتصار”، وكأن ديناميكية الديالكتيك التي ابهرتنا في الستينات و السبعينات، توقفت من أجلنا لننعم بهذا “الانتصار” الذي أصبح مطلقا في أدمغتنا المحشوة بالتنظيرات الاشتراكية العلمية. وهكذا من غير وعي نسقط في المطلق الذي ترفضه “ماديتنا الجدلية المباركة”. ومع ذلك استسغنا التوقف عند هذا الحد ونسينا أن الديالكتيك لا تقبل ذلك وإلا أصبحنا “سلفيين” في تفكيرنا أو على أصح تقدير، من مؤيدي نهاية التاريخ. لهذا، وفي لحظة تأمل، ربما سببها تقدم في العمر، نعي بكل وضوح بأننا اوقفناها بسبب انبهارنا المراهق، الذي يغمرنا بجهل، اعتقدنا أننا حاربناه، لكن سرعان ما سقطنا في غياهبه، ظانين أن الآخر المتكون من : الأسياد والمستبدين، والمستعمرين، بكل أنواعهم قد هُزموا فعلا وانتصرت الطبقات المسحوقة فعلا، مستدلين بما تردده كتب التاريخ والفكر من “تنوير وثورات وتحرير” الخ…
أما الحقيقة، فهي عكس ذلك. فما نسميه انتصارا ما هو إلا لحظة تحول في المفاهيم. وذلك ناتج عن جدلية الديالكتيك التي تعيدنا إلى حقيقة مفادها أن هناك تطور. فتطور أيضا الأسياد والمستبدون والمستعمرون الخ… مستفيدين هم أيضا من الحركات التحررية “والثورات” ليبقوا تلك الشعوب المستضعفة تحت سيطرتهم. فما زال السيد سيدا والعبد عبدا والمستبد مستبدا والمستغَل مستغَلا الخ…بمفهوم آخر وبمنطق يساير تسارع أحداث التاريخ. هكذا إذن تقلص الأمل هو أيضا، إلى يأس وألم. فتُعاد “النضالات” السيزيفية، ضد القوى المسيطرة التي تتقوى، فتعاد الحركات التحررية، لكنها تواجه حروبا بتقنيات جديدة وأكثر شراسة.
وفي نهاية المطاف، نصطدم أكثر حينما نعي بأن ما كنا نعتقده بانبهار مفرط، تنويرا أصبح ظلاما نتيجة “لتقدم” فوضوي على جميع المستويات، بدعوى حرية البحوث العلمية والتكنولوجية، حرية اتضح أن من عبؤوا لها كل الأبواق، هم أولئك المستغِلين والمستبِدين والأسياد الذين اعتقدنا بسذاجتنا بأن الشعوب انتصرت عليهم في “ثورات وحركات بطولية واستشهادات… “.
فها هو الإنسان، أصبح يعيش عصر اللا إنسانية، وأصبح أكثر خنوع للعقل الاصطناعي، بل أصبح مهددا بالاندثار بسبب تقهقر تلك العلاقة البريئة التي كان يحافظ عليها مع الطبيعة، سواء في تعامله مع المجتمع أو حتى فيما يخص علاقته الحميمية التي أصبحت مهددة بنظرية” الجندرة”. كل هذا في غياب فكر نقدي بناء يستلهم براديجماته من الإنسانية الحقة وليس من همجية الإنسان المستلب.
ا++