بنكيران: صوت الهامش في زمن الفراغ السياسي.

أبوعلي بلمزيان – الحسيمة 3 ماي 2025

حين ننظر في ظاهرة عبد الإله بن كيران من زاوية تحليل نقدي يستبطن المادية التاريخية كأداة للفهم، يتضح أن هذا الرجل لم يكن استثناءً في المشهد المغربي، بل تعبيراً حاداً عن لحظة انكشاف أزمة النخب، وخصوصاً تلك التي تصف نفسها بالتحديثية. إن بنكيران لا يُفهم خارج هذا السياق البنيوي، حيث فشلت القوى التي تدّعي التحديث في الارتباط بالطبقات الشعبية، وفي إنتاج خطاب جذاب ومتماسك وقادر على التعبئة. هذا الفشل هو الذي أتاح للإسلام السياسي أن يتسلل من الهوامش، ويتكلم بلغة تبدو أكثر قرباً من نبض الناس، حتى وإن كانت تلك اللغة محشوة بالتناقضات والمخاتلات الأيديولوجية.

بنكيران استثمر في فقر الوعي السياسي الناتج عن تهميش متعمد للثقافة النقدية، واستثمر كذلك في انهيار وسائط التنشئة الحديثة التي كان من المفترض أن تنتج جيلاً من المواطنين لا الرعايا. وعوض أن يُقابل ببديل يساري صلب يفكك خطابه اللاهوتي الأخلاوي، ويكشف بنيته الأيديولوجية القائمة على الخضوع والقدرية، وجد أمامه نخباً مهترئة تتحدث بلغة تقنية باردة، وتعيش انفصالاً تاماً عن الهمّ الشعبي، ولا تمتلك لا أدوات الإقناع ولا شروط المصداقية. فغابت الصيغة الثورية للتحليل، وابتلعت الانتهازية كل الأحزاب، وتحول المجال السياسي إلى سوق للترضيات، فكان طبيعياً أن يصبح بنكيران – بكل شطحاته وتناقضاته – صوتاً يسمعه الناس.

لكن خطورته لا تكمن فقط في قدرة خطابه على دغدغة العواطف، بل في تمكنه من التنقل بمهارة بين اللغة الرسمية واللغة السوقية، بين التمجيد الفج للملكية والنقد المبطن لما يسميه “التحكم”، بين تديّن مظهري وتسويق أخلاقيات زائفة، بين احتقار المثقفين وتبجيل “الحكمة الشعبية”. هو لا يقدم نفسه كزعيم حزبي فحسب، بل كفاعل “ضد الجميع”، وهو ما يمنحه جاذبية شعبوية تصعب محاصرتها في ظل ضمور التفكير العقلاني، وفي ظل الخواء الذي يعانيه الحقل الحزبي والنقابي والفكري.

بنكيران ليس مشروعاً سياسياً بالمعنى العميق، بل حالة خطابية هجينة تتغذى على هشاشة الوعي العام، وعلى استقالة الفكر النقدي، وعلى خيانة اليسار لمسؤولياته التاريخية. إنه يمارس سياسة بلا مضمون طبقي، ويتبنى قضايا الجماهير فقط حين تخدم موقعه التفاوضي داخل بنية النظام، ويعود سريعاً إلى اصطفافه الطبيعي كلما استُدعي إلى طقوس الولاء. وهذه القدرة على التمويه والانزلاق بين الأدوار تُعد واحدة من أخطر أدوات الشعبوية المحافظة، لأنها تقوّي منطق اللاعقلانية وتشرعن التبعية باسم الأخلاق والدين.

إن استمرار بنكيران في احتلال المشهد، حتى من موقع الهامش، دليل على عمق الأزمة التي يعيشها النموذج السياسي المغربي. أزمة لا تتعلق بالرجل نفسه، بل بما يمثله من فراغ تعبيري ومن قدرة على تبرير الاستبداد الناعم باسم الاستثناء المغربي. وبقدر ما نستهزئ بخطابه المتوتر والمتناقض، بقدر ما يفترض أن نشعر بالخطر من دلالته العميقة: أي أن الوعي الشعبي ما زال رهين الشعارات الغيبية، وأن النخبة الحداثية فشلت في تفكيك هذا الوعي، لا لأنها ضعيفة تنظيماً، بل لأنها تحولت إلى شريحة وظيفية في خدمة نفس البنية التي تدّعي معارضتها.

من هنا يصبح الرد على بنكيران لا يمر عبر التهكم أو تقزيمه، بل من خلال تفكيك الأرضية التي سمحت بانتعاشه، وإعادة بناء خطاب يساري جذري يُخاطب الواقع لا بالأخلاق الدينية، بل بلغة الصراع الاجتماعي. خطاب لا يساير السلطة في هواجسها، ولا يتحالف مع الرجعية، ولا يتعامل مع الجماهير كقُصّر، بل كقوة قادرة على التغيير حين يُعاد تشكيل الوعي داخلها. فبنكيران ليس هو المشكلة، بل هو عرض لأزمة أعمق، ولن يختفي ما لم يُطرح البديل الجذري الحقيقي، لا بديلاً صورياً يُعاد إنتاجه داخل نفس منطق التحكم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى