انني اموت.. انني لا اتنفس
يونس وانعيمي
خرج آلاف الأمريكيين بالعديد من المدن (مينيابوليس، لوس انجلس، شيكاغو، واشنطن…) ، بشكل حاشد وعفوي وبدون ان يكون وراءهم اية جهة تنظيم رسمية معلنة، للتظاهر والاحتجاج ضد مقتل مواطن أمريكي ذي بشرة سوداء من طرف رجال شرطة بمينيابوليس، وهم بصدد تنقيطه بأحد شوارع المدينة وأمام المارة في واضحة النهار.
والعالم كله تقريبا تتبع ذلك المقطع المفجع الذي وثق اللحظات الأخيرة للمسمى جورج فلويد ذي 44 سنة، وهو يتوسل ذللك الشرطي الأبيض لكي يتركه يتنفس و يزيل ركبته عن رقبته. أمام برودة غريبة وعدم اكثرات سادي بارد من طرف رجال الشرطة، لقي السيد فلويد حتفه، بعدما اطلق جملته التاريخية يI can’t breath.. المحتضرة دقائق بعد ذلك.
تصريحات وبلاغات الجهات الرسمية، سواء تعلق الأمر بعمادة المدينة ورئاسة الشرطة المحلية، ذهبت تقريبا لامتصاص غضب الشارع بأن اعتبرت الحادث، على جسامته، حدثا منعزلا، فيه عنف وعدم اكتراث لاستغاثة مواطن، لكنه يبقى عنفا غير ممنهجا بتاتا…
وأمام زيادة حدة الاحتجاجات، زاغ الرئيس دونالد ترامب، كما عادته هو ووزير عدله، عن اسلوب اللياقة والكياسة في مثل هذه التشنجات الشعبية (المنذرة بالانتشار العنيف) وذهب في اتجاه اتهام المحتجين بانتسابهم لعصابات اجرامية انسلت واستغلت الوضع لتلحق اكبر الأضرار الممكنة بامن واستقرار البلاد..
طبعا لا يهمني ما يقوله عادة دونالد ترامب، فهو يغير كلامه حسب اهواءه وهواء الازمات التي يضطر لتدبيرها… ولا يهم موقف مسؤول لا يرجى شيء جدي من سياسته ككل فبالأحرى تصريحاته حيال حادث مؤسف كهذا.
لكن ما يهمني هو أن الحادث ليس معزولا كما تحاول الشرطة والرئاسة الأمريكية ووزارة العدل وصفه للأمريكيين وللعالم..
ليست اول مرة، تقتل فيها الشرطة مواطنين امريكيين يمثل فيهم السود الأغلبية الساحقة..
الكل يتذكر اليافع ترايلون مارتين ذي 17 ربيعا والذي ارداه شرطيان قتيلا بوابل من الرصاص سوى لأنه كان يحمل معه عصا بيزبول يتوجه بها لأحد المنتزهات بفلوريدا ولم يقبل ان ينبطح أرضا كحيوان اجرب.. ونتذكر السيد ايريك غارنر ذي 43 سنة والأب لستة أطفال والذي مات بنفس طريقة جورج فلويد.. والشاب مايكل براون ذي 18 سنة أو اليافع لاكان ماكدونالد ذي 17 سنة الذي قتلته الشرطة في ولاية ميسوري بحوالي 20 رصاصة.. او قصة والتر سكوت الرجل الخمسيني الذي قتلته الشرطة بثمان طلقات لانه كان يسوق سيارة بمصباح خلفي واحد ورفض تنقيطه بذلك الشكل المذل جدا..
قصص كثيرة من قتل الأمريكيين، يبقى فيها القاسم المشترك هو أن الضحايا مواطنون أمريكيون سود وعزل، وقاتلوهم من رجال الشرطة البيض الذين يتم التحقيق معهم قبل إطلاق سراحهم كلهم بشكل ممنهج وفاضح.. يموت أولئك الناس لأنهم ينتفضون لغويا ويرفضون الامتثال لأحد أحقر مساطر التنقيط الأمني بالعالم الا وهي مساطر تنقيط الأمريكيين ذي البشرة السوداء.. فتحفظ كل تلك الجرائم الممنهجة التي تقوم بها الشرطة الأمريكية في خانة “مشروعية الدفاع عن النفس”..
نفس القصة حدثت بمينيابوليس وهي ليست الأولى من نوعها، كما أن خروج المواطنين السود للانتفاض والاحتجاج العنيف ليست هي ايضا الأولى من نوعها.. فالكل يتذكر الأحداث الدامية التي عرفتها شيكاغو أواخر تسعينيات القرن الماضي ضد قتل الشرطة لشابين أسودين، وهي أحداث دامت لأكثر من شهر اضطر معها الرئيس جورج بوش آنذاك لطلب تدخل الجيش وفرض حظر تجوال صارم وقاتل بالعديد من المدن الأمريكية…وذلك تماما ما ينويه الجمهوري دونالد ترامب.
بالرغم من أن حادث مقتل جورج فلويد يشبه كثيرا قتل آلاف الأمريكيين السود على يد الشرطة، بشكل أصبح الامريكيون متطبعين مع الظاهرة، الا ان للحادث سياق خاص :
1- لم يخرج السود فقط، بل خرج البيض ايضا وفئات مجتمعية مختلفة للاحتجاج الذي طبعته في كثير من ملامحه السلمية والتنظيم وتدقيق صياغة الخطابات التي تتجه كلها نحو اتهام الجهاز الأمني وأجهزة الدولة بالعنصرية. ولم يتخل السياسيون ايضا عن الدعم الرمزي لهذه الحركة المتولدة المسماة I can’t breathe… وكانت أبرز الشخصيات التي علقت وتعاطفت مع المحتجين، الرئيس السابق باراك أوباما الذي لم يكتف بإدانة ذلك الشرطي بل سار في اتجاه إدانة المنظومة الأمنية الأمريكية برمتها… اذن فحركة “لا أقدر على التنفس” هي حركة “واعية” وتتمدد سياسيا بشكل مضطرد وسيكون لها تداعيات سياسية تتجاوز قضية قتل معزولة.
2- احتجاجات شعبية وقعت متزامنة مع مرور عين الإعصار eye of storm الصحي والاقتصادي والاجتماعي الذي تشهده الولايات المتحدة الأمريكية وهي تصارع تداعيات وباء كورونا… أتت هذه الحادثة لتزيل خوف وتردد الكثير من الشباب الأمريكي العاطل عن العمل، من النزول للشارع للمطالبة بالعدالة الاجتماعية واحقاقها ولو كانت مغلفة بقضية هذا الحادث العنصري.. وليس متوقعا ان يتم بسهولة اخماد وهج الاحتجاجات (التي تتسع رقعتها بسرعة قياسية) حتى ولو تم إعدام الشرطي القاتل اوتقديم تعويض دسم لعائلة الهالك بملايين الدولارات… اظن ان القتيل جورج فلويد يشبه الشاب البوعزيزي بتونس والذي احرق نفسه ولم يدر انه يشعل فتيل ربيع عربي شبابي احتجاجي (تم قمعه بعنف ودهاء من دون القضاء عليه نهائيا).. كثير من الأحداث في التاريخ بدأت تافهة ومعزولة لكنها خلفت وراءها حركات تكتونية غيرت مجرى التاريخ برمته.. الأمريكيون ذاقوا ذرعا من ظنك العيش والخوف الممنهج المطبق عليهم وانسداد امل الحظوة بخدمات صحية وحقوق كباقي الأوروبيين على الاقل، وهم اول من يعلم زيف “الحلم الأمريكي” فلم تكن تنقصهم سوى رصاصة طائشة او ركبة طائشة لشرطي أخرق كي ينتفضوا بهذه القوة..
3- في التسعينات عقب أحداث شيكاغو، لم يكن لا فيسبوك ولا اعلام مفتوح كما نعرفه اليوم.. ميردوخ كان الآمر الناهي في جميع القنوات والجرائد التلفزية التي يملكها، كأخطبوط، وكان لا يحتاج لتعليمات كثيرة لمرؤوسيه من مدراء القنوات حتى يصفوا السود والمهاجرين بأبشع الأوصاف. وكان يتم تصوير احتجاجات السود ضد العنصرية كما لو كانت مخلوقات الزومبي تكتسح شوارع البلاد واملاك العباد.. هذا الإعلام المشيطن لقضايا السود هو حلقة ضمن منظومة محكمة بالعنف الممنهج ابتداء بتدريب الشرطة وغسل ذماغ رجالاتها وشحنها بالعنف والصلاحيات المطلقة، ومرورا باخضاع الأمريكيين لرهاب الأسود phobie du nègre وتسليحهم وتليين كل إجراءات الدفاع عن النفس.. وكم من اسود تم إطلاق النار عليه لا لشيء الا للشك في نواياه العنيفة او الخوف من شكله وصوته وعضلاته.. الجديد هو أنه لو انتظرنا فيديو الشرطة او شهادة بعض البيض المتعصبين الكثر، لذهب دم فلويد سدى.. ولكن لأنه تم تصويره بتطبيق Facebook Live وربما من طرف شخص غير متعصب وعابر سبيل عادي، وحيث ان ملايين المشاهدين تفرجوا بشكل مباشر تقريبا على الفاجعة وحيثياتها… لم يسعف ذلك الشرطة لكي توظب اطروحة تبرئتها، كما لم يسعف ذلك ميردوخ وغيره من القنوات الجمهورية (المتعاطفة تاريخيا مع حزب الرئيس) لتقوم بإخراج سيناريوهات تصف الضحية بكونه ليس إلا زومبي تم الإجهاز عليه تحت ذريعة دفاع الشرطة عن نفسها.
لم يتوقع ترامب، وهو يوجه مدفعيته للصين لتلهية شعبه في عز الحملة الانتخابية، ان يقترف شرطي غبي هذا الخطأ في هذا التوقيت الحرج وان يسدل عابر سبيل غبي هاتفه المحمول ويصور كل هذا المسمىbull shit الذي اربك حسابات البيت الأبيض الذي اهتز لمقتل رجل اسود.
كانت توشك حيلة “اتهام الصين” المبالغ فيها على أن تؤتي أكلها وتغطي فشل إدارة ترامب في مواجهة جائحة كورونا، لولا هذا الحادث المؤسف.. ربما من لا يستطيع التنفس الآن ليس المرحوم لويد وإنما السيد دونالد ترامب نفسه.