العمارتي: “الخطة الأمريكية.. مشروع إدارة أجنبية يتجاهل جوهر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي”

محمد العمارتي / أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان ( سابقا) جامعة محمد الأول – وجدة

أعلن الرئيس الأمريكي” دونالب ترامب” في 29 شتنبر 2025 عن خطة أحادية، ” الخطة الشاملة لإنهاء النزاع في غزة” من 20 نقطة، مؤكدا أنها تهدف إلى إنهاء الحرب على قطاع غزة وإحلال السلام فيها. وحظي المشروع الذي تقترحه هذه الوثيقة بمساندة جزئية من المجتمع الدولي، بما فيه إسرائيل وعددا من الدول العربية والإسلامية والأوروبية، في حين لم توافق السلطة الفلسطينية على هذه الخطة بشكل كامل، وعبرت عن خيبة أملها من وضع غزة تحت ” وصاية أمريكية مباشرة”. بينما عبرت حركة حماس عن موافقتها على بعض الجوانب الجزئية التي طرحتها الخطة، ورفضها لبعض التدابير الأخرى ” غير المقبولة” لأنها لا تراعي مصالح الفلسطينيين والثوابت الوطنية.

وفي تسارع لافت للأحداث، انعقدت في 13 أكتوبر 2025″ قمة دولية للسلام” في شرم الشيخ بمصر برئاسة مصرية –أمريكية ومشاركة 30 من الدول العربية والإسلامية والأوروبية ودول أخرى، بهدف إضفاء الشرعية الدولية على الخطة الأمريكية، ولا سيما ما يتعلق بالاتفاق على الترتيبات العملية لمرحلة ما بعد الحرب في قطاع غزة، وإقامة السلطة والحفاظ على الأمن فيها وعمليات إعادة إعمارها، وتوقيع الدول الرئيسية الوسيطة على وثيقة / إعلان لضمان تنفيذ وقف أطلاق النار في قطاع غزة.

وعلى الرغم من الترحيب والتأييد الجزئي الذي حظيت به خطة ترامب، فإن القراءة النقدية الفاحصة للتدابير المرحلية والانتقالية التي تقترح تنفيذها تثير تساؤلات كثيرة، بل تحفظات ومخاوف مشروعة، تفرضها من جهة، السمة الغامضة لمعظم عناصرها، والبعد التجزيئي الذي يغلب على مضمونها، وتبررها من جهة أخرى، الصعوبات المتوقعة التي سوف تعترض تنفيذها، فضلا عن تجاهلها واستبعادها الكامل لعدد من القضايا الخلافية الجوهرية العالقة.

أولا – النقاط المحورية لمضمون الخطة

يحدد الإعلان / الوثيقة خطاطة للوضع الذي يرتقب أن يتحقق تدريجيا في قطاع غزة على المديين القصير والمتوسط. وترتكز على ثلاث مكونات مترابطة ومتكاملة، الأول منها يهم الشق العسكري والترتيبات الأمنية الداخلية، ويتعلق الثاني منها بالجوانب الإنسانية، أما الثالث فيحدد الإطار السياسي / المدني لتدبير السلطة خلال المرحلة الانتقالية.

يتعلق الشق العسكري بشروط وقف إطلاق النار في غزة، أو ما تسميه الخطة بتعليق كل العمليات العسكرية بين الطرفين، تحضيرا لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين واستيفاء شروط الانسحاب الكامل وعلى مراحل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، في مقابل الإفراج من الجانب الإسرائيلي على 250 سجينا فلسطينيا محكوما عليهم بالسجن المؤبد، و1700 من سكان غزة المحتجزين بعد أحداث 07 أكتوبر 2023، بالإضافة الى تبادل جثامين الموتى من الرهائن الإسرائيليين والمحتجزين الفلسطينيين (النقطتين 3 و5 من الخطة).

بيد أن الخطة الأمريكية تشرط إنهاء الحرب على غزة بتخلي حركة حماس نهائيا عن المقاومة المسلحة، وبالتزام الحركة مع الفصائل الفلسطينية الأخرى بنزع سلاحها، وبعدم أدائها لأي دور في النظام المرتقب لتدبير السلطة في غزة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بالإضافة إلى تدمير كل البنى التحتية العسكرية بما فيها الأنفاق ومنشآت إنتاج الأسلحة (النقطة 13). وفي مقابل موافقة حركة حماس على نزع سلاحها، تطرح الخطة (النقطة6 ) استفادة أعضاء الحركة من عفو عام والسماح لمن يرغبون منهم في المغادرة وضمان مرور هم الآمن للتوجه الى بلدان أخرى. وتلتزم إسرائيل من جانبها وفقا للنقطة 16 من الخطة بالسحب التدريجي لقواتها العسكرية من قطاع غزة وبتخليها الصريح عن مشروع احتلالها أو ضمها.

وتحتوي الخطة الأمريكية لإنهاء الحرب على شق إنساني، يهم في جزء منه الإفراج عن جميع الرهائن المحتجزين لدى حركة حماس وإطلاق سراح عدد من المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بما فيهم الأطفال والنساء (النقطتين 4 و 5) . ويتعلق الجزء الآخر منه (النقطة7 ) بالعودة الفورية لعمليات إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، بشكل حصري من طرف منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والهلال الأحمر و مؤسسات دولية أخرى غير تابعة او مرتبطة بأطراف النزاع.

وأما الشق الثالث السياسي للخطة، فإنه يحدد شكل السلطة الانتقالية المؤقتة والإدارة الدولية لقطاع غزة، ويرتكز هذا الشق على مكونين أولهما سياسي وثانيهما عسكري / أمني.

فبالنسبة للهيكل العسكري / الأمني، تقترح الخطة النشر الفوري ل”قوة استقرار دولية مؤقتة “يعهد إليها السهر على تدبير متطلبات استتباب الامن الداخلي على المدى الطويل و الإشراف على تأمين المناطق الحدودية. بينما تعهد السلطة الانتقالية المدنية إلى لجنة فلسطينية “تكنوقراطية وغير مسيّسة”، تتألف من الفلسطينيين المشهود لهم بالكفاءة ومن خبراء دوليين، وتمارس عملها تحت إشراف هيئة دولية انتقالية بمسمى ” مجلس السلام” يتولى رئاسته ” دونالد ترامب” ويضم رؤساء دول وشخصيات أخرى. وهكذا، تقصي الخطة السلطة الفلسطينية وحركة حماس من المشاركة في الإدارة الانتقالية لقطاع غزة بأي شكل من الأشكال (النقطة 13).

وما يسترعي الانتباه في هذه الصيغة المقترحة” للإدارة الانتقالية الدولية” لغزة وما يثير الاستغراب من تركيبتها، أنها في غياب أي تفويض من الأمم المتحدة- وعلى خلاف بعض السوابق في الممارسة الدولية – على الأقل منذ نشأة الأم المتحدة -، تعتبر في حال قطاع غزة، إدارة أجنبية بالكامل، أكثر من كونها إدارة دولية أو مختلطة.

ولمواجهة واحتواء الآثار المدمرة للكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي ضربت غزة وسكانها جراء سنتين من الحرب الإسرائيلية، تطرح الخطة إقامة هذه الصيغة من الإدارة الدولية كحل انتقالي يروم منه الرئيس الأمريكي والمؤيدون لخطته، التدبير الاستعجالي لمشروع إعادة إعمار غزة و “تسهيل الاستثمارات التي ستخلق فرص عمل وفرصا وأملا لمستقبل غزة” (النقطة 10).

وإذا كانت هذه الخطة تحدد الملامح العامة لأفق سياسي في قطاع غزة ، من خلال النص على ” عدم إجبار أي أحد على مغادرة غزة ، مع ضمان حرية المغادرة والعودة إليها لمن أراد ذلك ” ، الأمر الذي يعتبر تراجعا عن التهديدات السابقة للرئيس الأمريكي بتهجير سكان غزة نحو بلدان أخرى ، وأيضا عن استعمال الحكومة الإسرائيلية لسلاح تجويع سكان غزة لدفعهم الى النزوح القسري ، فإن تنفيذ مضامين الخطة الأمريكية لإنهاء الحرب على غزة يظل مع ذلك مرتكزا بشكل كامل على الدور الأمريكي ، ورهينا بدعم وانخراط ” مجموعات دولية حسنة النية”(النقطة 10)، مما يثير مخاوف مشروعة من أهدافها الحقيقية ، ويعزز وجاهة وواقعية الآراء التي دعت الى الحذر من الرهانات الخفية لهذه الخطة على مآل الوضع في قطاع غزة.

ثانيا – مضمون محدود ومبهم وقضايا مصيرية عالقة

لا شك في أن الخطة الأمريكية لإنهاء الحرب على غزة، لا تعدو كونها مجرد لبنة أولى في مسار شاق وطويل لإقامة سلام دائم في الشرق الأوسط، ومع ذلك، ثمة العديد من الدواعي والأسباب التي تثير المخاوف والتحفظات، إن بشأن طبيعة ومحدودية التدابير التي تطرحها الخطة، أو بسبب ما تحاشت طرحه بالوضوح المفروض من قضايا أساسية لا يمكن بأي حال صرف النظر عنها وتجاهلها، لاعتبارها من صميم الصراع الفلسطيني –الإسرائيلي منذ عقود خلت.

ولعل ما يتصدر دوافع الحيطة والحذر من خطة الرئيس “ترامب”، الغموض الذي يحيط بمقترحاتها المتعلقة ب ” حل الدولتين” وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. فبالرغم من واقع الاعتراف المتصاعد والواسع الذي باتت تحظى به دولة فلسطين من طرف الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة (في شتنبر 2025 بلغ عدد الدول التي اعترفت بدولة فلسطين أو أعلنت رسميا عزمها الاعتراف بها 149 من بين 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، بما يعادل ¾ الدول الأعضاء)، ورغم هذا الزخم من الاعترافات، اقتصرت الخطة الأمريكية على دعوة السلطة الفلسطينية ل ” تنفيذ برنامج إصلاح بأمانة … وتهيئ” الظروف لفتح مسار ذي مصداقية نحو تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية ” (النقطة 19 ) .

ولعل ما يضيف ظلالا كثيفة من الشك على أهداف الخطة في توفير شروط إقامة سلام عادل ودائم، وضمان حقوق الشعب الفلسطيني وفقا للشرعية الدولية، تأكيد الوزير الأول الإسرائيلي بوضوح لا لبس فيه، أن موافقة بلاده على الخطة الأمريكية لا تستتبع مطلقا القبول بإقامة دولة فلسطينية، مشدّدا على أنه عبر عن معارضته القاطعة لفكرة إقامة دولة فلسطين، خلال محادثاته مع الرئيس ” ترامب ” .

وثمة مسألة أخرى تدعو الى القلق من مضمون خطة الرئيس “ترامب”، تتمثل في تغييبها الكامل لمآل الضفة الغربية، وإحاطة الانسحاب الإسرائيلي عبر مراحل من غزة بتوفر شروط صارمة ولترتيبات تقييدية مقابل التزام إسرائيل بعدم احتلال غزة أو ضمها (النقطة 16).

يتضح إذا ،أن الوضع المرتقب للضفة الغربية كما هو الشأن بالنسبة لمستقبل قيام الدولة الفلسطينية، تعرض للتجاهل الكامل في ” الخطة الأمريكية للسلام” ،ويعكس الإصرار الأمريكي على تجاهل الاستنتاجات القانونية الأساسية للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 19 يوليوز 2024 ،الذي حسمت فيه -من بين مسائل أخرى -الطابع غير القانوني لاحتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية المحتلة ، حيث أقرت في هذا الرأي “أن إعمال حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، بما في ذلك حقه في دولة مستقلة وذات سيادة [,,,,,] من شأنه أن يسهم في الاستقرار الإقليمي وأمن جميع دول الشرق الأوسط”.

وعلاوة على ما سبق، يلاحظ على الخطة المقترحة تغاضيها عن المسالة الأساسية المتعلقة بإثارة المسؤوليات القانونية لإسرائيل عن الجرائم الدولية الجسيمة التي ارتكبتها اثناء حربها المدمرة على قطاع غزة.

فقد طرحت الخطة في (النقطة 6) إمكانية استفادة أعضاء حركة حماس من عفو عام في حالة ” التزامهم بالتعايش سلميا وتسليم أسلحتهم”، بينما تحاشت كليا إثارة مصير القادة الإسرائيليين وعناصر الجيش المشتبه في ارتكابهم للجرائم الدولية والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني بما فيها جريمة الإبادة الجماعية، بالرغم من المتابعات الجارية ضد البعض منهم أمام المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الوطني في بعض الدول الأوربية. وعلى نفس المنوال، أهملت الخطة الأمريكية أي إشارة الى سبل التعويض وجبر الأضرار التي تسببت فيها سياسات وممارسات إسرائيل للضحايا الفلسطينيين من سكان قطاع غزة، علما ان محكمة العدل الدولية قد حسمت أيضا هذا المسألة في رأيها الاستشاري المومئ إليه سابقا. ومما لا ريب فيه، أن تجاهل الخطة لمثل هذه القضايا الجوهرية في الصراع الفلسطيني –الإسرائيلي، واستبعادها الكلي من مشروع يهدف الى إنهاء الحرب، بقدر ما يبعث على الاستغراب والشك والحذر، فإنه يكرس إنكارا للعدالة الدولية وازدراء فاضحا وغير مقبول للقانون الدولي.

وبشكل أعم، إن الخطة قد تجنبت اقتراح أي حل للقضايا الشائكة الكثيرة في النزاع الفلسطيني –الإسرائيلي، وفي صدارتها مشكلة الحدود وحق اللاجئين في العودة الى بلادهم، ووقف سياسة المستوطنات، ووضع مدينة القدس، لاسيما أن الأجهزة الدولية المتعددة الأطراف وفي مقدمتها الجمعية العامة ومجلس الأمن، قد أصدرت على مر العقود الماضية مجموعة وفيرة من القرارات التي تحدد إطارا لتسوية الصراع الفلسطيني –الإسرائيلي وفقا للشرعية الدولية والذي لا يمكن تجاهله وتقويضه.

فإذا كان من المفهوم أن ضغط واستعجال تنفيذ عدد من التدابير الفورية، يفرض بداهة التعاون الدولي والتزام أطراف النزاع وموافقتهم على بعض الجوانب الواردة في الخطة المقترحة لوضع حد للكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي يعيشها سكان قطاع غزة، فإن أي تسوية نهائية وعادلة للنزاع الفلسطيني –الإسرائيلي لا يمكن اختزالها في صفقة سياسية لا تستند على مبادئ القانون الدولي.

يمكننا الخلوص مما سبق إلى أن خطة الرئيس الأمريكي “ترامب”، إذا كانت تطرح بعض الحلول المقبولة في شقها الإنساني، فإنها تبقى مع ذلك متسمة بعمومية وضبابية صيغتها والطابع الجزئي والمحدود لمضمونها. وبذلك، يمكن اعتبارها “إعلان مبادئ ” أكثر مما هي “اتفاقا” بالمدلول القانوني. وفي هذا الاتجاه، يمكن القول أن الموافقة التي عبرت عنها حركة حماس على جزء من عناصر الخطة، لا يعدو كونه خطوة تمهيدية للشروع في مرحلة أولى من مسار طويل يهدف إلى التوصل للتوقيع على اتفاق أو مجموعة اتفاقات تحدد بوضوح حقوق والتزامات مختلف أطراف النزاع وأيضا ضمانات بعض الأطراف الفاعلة.

وفي مرحلة لاحقة، سيكون من اللازم العمل على التنفيذ الفعلي لهذه الاتفاقات من قبل أطراف النزاع من جهة، ومن طرف الدول الأخرى التي سوف تساهم في الإدارة الدولية الانتقالية لقطاع غزة وفي «قوة الاستقرار الدولية المؤقتة” من جهة أخرى.

يقينا، إن إنهاء الحرب على غزة يعتبر مدخلا لا مناص منه لمسار طويل ومحفوف بالحواجز لتسوية النزاع الفلسطيني –الإسرائيلي، وبناء السلم والحفاظ عليه في الشرق الأوسط، إلا أن الإرادة الجدية للنجاح في هذا المسار تحتم لا محالة تخلي الولايات المتحدة عن رؤيتها الأحادية و فرضها بالقوة كمشروع لحل النزاع ،والعودة الى أسلوب التفاوض و المقاربة المتعددة الأطراف، فتاريخ العلاقات الدولية يثبت أن الحلول الأحادية لا تدوم مدة أطول من القوة التي فرضتها .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!