الذكرى الـ80 لتخليد ذكرى الجنود المغاربة في كابيل: أبطال الحرب العالمية الثانية في قلب أوروبا

كابيل، هولندا – 15 ماي 2025
في ربوع مدينة كابيل الهولندية الهادئة، تتجدد هذا العام الذكرى الثمانون لتخليد ذكرى الجنود المغاربة الذين ضحوا بأرواحهم خلال الحرب العالمية الثانية، دفاعًا عن حرية فرنسا، هولندا، بلجيكا، وأوروبا بأسرها. هؤلاء الأبطال، الذين جاءوا من المغرب تحت راية القوات الفرنسية، كتبوا بدمائهم ملحمة بطولية في مواجهة الاحتلال النازي، ليظلوا رمزًا للتضحية والنضال في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية.

قصة الأبطال المغاربة في كابيل: ملحمة التضحية

في ماي 1940، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تلتهم أوروبا، استجاب المغرب، تحت الانتداب الفرنسي، لنداء الحلفاء. شارك الآلاف من المغاربة، وبالأخص الجنود المعروفون بـ”الرماة المغاربة” (Tirailleurs Marocains)، في معارك شرسة ضد القوات الألمانية. كان هؤلاء الجنود، الذين ينتمي العديد منهم إلى مناطق الأطلس والريف، نخبة من المقاتلين المتطوعين، يتمتعون بخبرة عسكرية تمتد أحيانًا لأكثر من عقد من الزمن.

في هولندا، وبالأخص في إقليم زيلاند، وصلت القوات المغربية ضمن الجيش الفرنسي للدفاع عن الأراضي الهولندية بعد الغزو الألماني في 10 ماي 1940. في مدينة كابيل ومحيطها، خاض الجنود المغاربة معارك ضارية، خاصة خلال عمليات إجلاء الحلفاء من دونكيرك. لكن القدر لم يمهل العديد منهم، حيث لقي بعضهم حتفهم في المعارك أو غرقوا أثناء عبورهم نهر ويسترشيلد، لتطوف جثامينهم إلى شواطئ زيلاند، حيث قام السكان المحليون بدفنهم بكل إجلال واحترام.

وفقًا لشهادات تاريخية، مثل تلك المروية عن الرقيب المغربي موغيت بن داود، فقد قاتل الجنود المغاربة بشجاعة استثنائية، رغم الإرهاق الذي عانوه بعد مسيرات طويلة امتدت لأكثر من 100 كيلومتر في ثلاثة أيام. في كابيل، سقط 12 جنديًا مغربيًا على الأقل، وأُسر ثمانية آخرون، بينما نجا 14 تمكنوا من الفرار عبر النهر بمساعدة مزارع هولندي قدم لهم ملابس جافة. هذه القصص تُبرز ليس فقط بطولة المغاربة، بل أيضًا التضامن الإنساني الذي تجلى في خضم الحرب.

مقاومة أسطورية وإرث خالد

لم تقتصر بطولات الجنود المغاربة على كابيل، بل امتدت إلى معارك أخرى حاسمة، مثل معركة جمبلو (Gembloux) في بلجيكا، حيث أوقفوا تقدم الجيش الألماني في ماي 1940، مانحين الحلفاء وقتًا ثمينًا لتنظيم عملية إجلاء دونكيرك التي أنقذت حوالي 338,000 جندي. هذه التضحيات، التي كلفت حياة المئات من المغاربة، كانت حاسمة في تغيير مسار الحرب.

اليوم، تُحيي هولندا ذكرى هؤلاء الأبطال في المقبرة العسكرية الفرنسية بكابيل، حيث دُفن الجنود المغاربة إلى جانب زملائهم الفرنسيين والجزائريين. هذه المقبرة ليست مجرد مكان للراحة الأبدية، بل رمز للتضحية المشتركة والتضامن بين الشعوب. وفي كل عام، تُنظم مراسم تذكارية في 4 ماي، اليوم الوطني الهولندي لإحياء ذكرى ضحايا الحرب، لتكريم هؤلاء الجنود الذين قدموا أرواحهم من أجل حرية أوروبا.

مسرحية “غريب”: إحياء ذاكرة المغاربة

في مبادرة ثقافية ملهمة، قدّم المخرجان الهولنديان محفوظ مقدم وماركوس فالستر دا كوستا في ماي 2025 مسرحية بعنوان “غريب” ضمن فعاليات “مسرح ما بعد السد” (Theater na de Dam) في أمستردام. هذه المسرحية، التي استلهمت من زيارة المخرجين لمقبرة كابيل عام 2023، تروي قصة جنديين مغربيين غرقا خلال الحرب ودُفنا في هولندا. من خلال هذا العمل الفني، سعى المخرجان إلى إعطاء صوت لمن لم يُسمعوا، وتسليط الضوء على مساهمات المغاربة في تحرير أوروبا، في وقت تشهد فيه هولندا نقاشات حول الهوية ودور الأقليات. المسرحية لاقت إشادة واسعة لقدرتها على ربط التاريخ بالحاضر، وتعزيز الحوار بين الثقافات.

دعوة لتكريم الأبطال واستلهام نضالهم

إن إحياء الذكرى الثمانين لتضحيات الجنود المغاربة في كابيل ليس مجرد استرجاع للتاريخ، بل دعوة لاستلهام قيم الشجاعة والتضامن التي جسدوها. هؤلاء الجنود، الذين جاؤوا من قرى المغرب البعيدة ليقاتلوا في أرض غريبة، لم يدافعوا فقط عن أوروبا، بل عن كرامة الإنسان وحقه في الحرية. إن إرثهم يذكرنا بأن الحرية ثمنها باهظ، وأن التضامن بين الشعوب هو السلاح الأقوى في مواجهة الظلم.

في هذا السياق، يُعد تكريم الجنود المغاربة في كابيل فرصة لتجديد الالتزام بالدفاع عن قيم السلام والعدالة. إنه أيضًا دعوة للأجيال الجديدة للتعرف على هذا الإرث البطولي، والمساهمة في تعزيز الروابط بين المغرب وهولندا، وبين شعوب العالم التي تجمعها قيم الحرية. فلنحيي ذكرى هؤلاء الأبطال، ولنحمل شعلة نضالهم في قلوبنا، لنبني عالمًا يسوده السلام والتضامن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى