الديمقراطية في مواجهة التكنولوجيا: رؤى قانونية وتقنية لمواجهة التهديدات

عبدالعالي الجابري – وجدة، 5 ماي 2025

في محاضرة أكاديمية ماتعة ألقاها الأستاذ أمين السعيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة فاس، والمسجلة على منصة فيسبوك (https://www.facebook.com/100086533473593/videos/1240740880991030)، ناقش السعيد تحديات الديمقراطية في عصر الرقمنة، مستعرضًا تراجعها العالمي منذ 2005 وتأثير التكنولوجيا الجديدة كسلاح ذي حدين. من الهجمات السيبرانية إلى التضليل الإعلامي وصعود “السلطوية الرقمية”، أصبحت التكنولوجيا تهديدًا لجوهر الديمقراطية، مما يستدعي حلولًا قانونية وتقنية عاجلة. كيف يمكن للقانون والتكنولوجيا أن يحميا الديمقراطية من هذه المخاطر؟ يستعرض هذا المقال رؤى المحاضرة ويقترح سبلًا لمواجهة هذا التحدي العالمي.

الانحدار الديمقراطي: سياق تاريخي وعوامل التراجع

استعرض الأستاذ السعيد موجات التحول الديمقراطي التاريخية، بدءًا من الثورة الأمريكية (1776) والفرنسية (1789)، مرورًا بالموجة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى الموجة الثالثة التي انطلقت مع ثورة القرنفل في البرتغال عام 1974. خلال هذه الموجة، تضاعف عدد الدول الديمقراطية إلى حوالي 90 دولة، بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في سياق الحرب الباردة ضد الشيوعية. لكن، منذ 2005، بدأت الديمقراطية تشهد تراجعًا مقلقًا، أطلق عليه السعيد “الانحدار الديمقراطي”. تقارير منظمات مثل معهد V-Dem وFreedom House تؤكد هذا التراجع، حيث تحولت دول مثل فرنسا وإيطاليا إلى “ديمقراطيات ناقصة”، وباتت دول أخرى كالبرازيل وتركيا “أنظمة هجينة”، بينما انزلقت دول أفريقية كالسودان إلى السلطوية.

وفقًا للسعيد، يُعزى هذا الانحدار إلى عوامل متعددة: تحول السياسة الأمريكية من دعم الديمقراطية إلى “الحرب على الإرهاب” بعد 2004، مما قلل الدعم للانتقال الديمقراطي وشجع التحالف مع أنظمة سلطوية. كما ساهمت الأزمات الاقتصادية، تفاقم اللامساواة، وفقدان الثقة في المؤسسات في صعود الشعبوية واليمين المتطرف في أوروبا، حيث حققت أحزاب في إيطاليا وهنغاريا وفرنسا مكاسب انتخابية كبيرة. داخل الاتحاد الأوروبي، تُظهر دول مثل هنغاريا تحت قيادة فيكتور أوربان نزعات مناهضة للديمقراطية الليبرالية، مما يُعيق جهود التكامل الأوروبي.

التكنولوجيا: تهديدات رقمية للعمليات الديمقراطية

في سياق هذا الانحدار، برزت التكنولوجيا الجديدة كعامل معقد، كما أوضح السعيد. في بداية العقد الماضي، أُشيد بوسائل التواصل الاجتماعي كأداة لتعزيز المشاركة السياسية، كما رأينا في الربيع العربي عام 2011. لكن اليوم، تُظهر دراسات حديثة (2023-2025) أن الرقمنة تشكل تهديدًا خطيرًا، خاصة للعمليات الانتخابية. ومن أبرز هذه التهديدات التي ناقشها السعيد:

  1. الهجمات السيبرانية على البنية التحتية الانتخابية: تُشرف شركات خاصة في دول مثل الولايات المتحدة على إدارة قوائم الناخبين، مراكز الاقتراع، وتسجيل النتائج. تقرير من مركز برينان للعدالة (جامعة نيويورك) يحذر من غياب الرقابة الحكومية على هذه الشركات، مما يجعلها عرضة للهجمات السيبرانية. في الانتخابات الأوروبية لعام 2023، تعرضت 11 عملية انتخابية لهجمات إلكترونية، غالبًا من مصادر مجهولة. وحتى الدول المتقدمة رقميًا، مثل الدنمارك وفنلندا، تتردد في تبني التصويت الإلكتروني بسبب المخاطر الأمنية، باستثناء إستونيا التي طورت نظامًا رقميًا متقدمًا.
  2. التضليل الإعلامي و”الفيشينغ”: تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لنشر أخبار كاذبة ومحتوى مضلل يستهدف الناخبين بناءً على معتقداتهم. السعيد استشهد بحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي (Brexit) كمثال، حيث استُخدمت فيديوهات مضللة لتخويف الناخبين من الهجرة. كما أن تقنيات “الفيشينغ”، التي تتيح تقليد أصوات السياسيين أو نشر شائعات عن تزوير الانتخابات، تشكل خطرًا مباشرًا على نزاهة العملية الديمقراطية.
  3. الشعبوية الرقمية: أشار السعيد إلى استغلال الحركات الشعبوية، خاصة اليمين المتطرف، لوسائل التواصل الاجتماعي لنشر خطابات عاطفية ومثيرة للانقسام، غالبًا ضد المهاجرين والأقليات. هذا الخطاب، المدعوم بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، يعزز الاستقطاب السياسي ويُضعف الخطاب العقلاني، كما يتضح من نجاحات اليمين المتطرف في إيطاليا وهنغاريا.
  4. السلطوية الرقمية: ناقش السعيد مفهوم “السلطوية الرقمية”، حيث تستخدم أنظمة سلطوية، مثل كوريا الشمالية، أنظمة مراقبة متقدمة لقمع حرية التعبير وتتبع المعارضين. هذه الأنظمة، التي تُباع أو تُطوَّر بالتعاون مع شركات تكنولوجية كبرى، تُعزز السيطرة بدلاً من الديمقراطية، مما يُفاقم أزمة الحريات في دول غير ديمقراطية.

حلول قانونية وتقنية لاستعادة السيادة الديمقراطية

للتصدي لهذه التهديدات، اقترح السعيد حلولًا تجمع بين التشريعات القانونية والتدابير التقنية، مؤكدًا على ضرورة استعادة “السيادة الرقمية” للدول والمجتمعات. تشمل هذه الحلول:

  1. تشريعات صارمة لتنظيم الشركات التكنولوجية: دعا السعيد إلى فرض قوانين تحمي البنية التحتية الانتخابية من التدخلات الخارجية وتضمن حيادية الشركات الخاصة. في الولايات المتحدة، يُطالب الخبراء بتدخل الكونغرس لمراقبة الشركات المشرفة على العمليات الانتخابية. كما ينبغي للدول الأوروبية تبني تشريعات موحدة تحد من التضليل الإعلامي وتُلزم المنصات الرقمية بإزالة المحتوى المضلل فورًا.
  2. تعزيز الأمن السيبراني: أكد السعيد على الحاجة إلى استثمارات كبيرة في الأمن السيبراني، بما في ذلك تطوير أنظمة تشفير متقدمة وتدريب المسؤولين الانتخابيين. تجربة إستونيا، التي نجحت في رقمنة انتخاباتها مع ضمانات أمنية عالية، تُعد نموذجًا يمكن للدول الأخرى محاكاته.
  3. تثقيف المواطنين وتعزيز الشفافية: شدد السعيد على أن التضليل أخطر من الاحتيال التقليدي لأنه يستغل نقص الوعي لدى المواطنين. لذا، يجب إطلاق حملات توعية لتعليم الناخبين كيفية التحقق من مصادر المعلومات. كما ينبغي للأحزاب السياسية والإعلام تبني مدونات أخلاقية لمواجهة التلاعب الرقمي.
  4. مواجهة السلطوية الرقمية: اقترح السعيد فرض عقوبات على الشركات التكنولوجية التي تتعاون مع أنظمة سلطوية، مع دعم المجتمع المدني بأدوات رقمية تمكنه من مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان. هذا يتطلب تعاونًا دوليًا للحد من تصدير أنظمة المراقبة إلى الأنظمة غير الديمقراطية.

الخاتمة

من خلال محاضرته الثرية، قدّم الأستاذ أمين السعيد تحليلًا عميقًا لأزمة الديمقراطية في عصر التكنولوجيا، محذرًا من أن الهجمات السيبرانية، التضليل، والسلطوية الرقمية تهدد جوهر العملية الديمقراطية. لكن هذه الأزمة ليست قدرًا محتومًا. من خلال تشريعات صلبة، استثمارات في الأمن السيبراني، وتثقيف المواطنين، يمكن للدول استعادة سيادتها الرقمية وحماية إرادة الناخبين. الديمقراطية، كما أشار السعيد، تواجه مفترق طرق: إما التكيف مع التحديات الرقمية أو الانزلاق نحو “ما بعد الديمقراطية”، حيث تسيطر الشركات التكنولوجية والأنظمة السلطوية.

المعركة قانونية وتقنية وأخلاقية، تتطلب تعاونًا دوليًا لضمان أن تظل الديمقراطية حصنًا للحرية والعدالة في عصر الخوارزميات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى