الخطاب الملكي أمام البرلمان: “الجدية” كمفتاح لـ “العدالة المجالية”… استراتيجية وطنية تتجاوز الزمن الحكومي

في افتتاح السنة التشريعية الأخيرة لمجلس النواب، يضع الخطاب الملكي إطاراً سياسياً واضحاً يستند إلى ركيزتين أساسيتين: الجدية في العمل البرلماني، و العدالة المجالية كتوجه استراتيجي ثابت يتطلب تحولاً جذرياً في العقليات ومنهجية العمل الحكومي والمحلي. هذا التحليل يغوص في أبرز التوجيهات التي تؤكد أن القضايا التنموية الكبرى تتجاوز الزمن الحكومي وتتطلب التزاماً مصيرياً من جميع الفاعلين.

عام الحصاد ومسؤولية التأطير السياسي

وجّه الخطاب الملكي تقديراً للعمل الذي يقوم به البرلمانيون في مجالات التشريع ومراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية. لكنه شدد على أن السنة الأخيرة من عمر مجلس النواب يجب تكريسها للعمل “بروح الجدية والمسؤولية”، وذلك لاستكمال المخططات التشريعية وتنفيذ البرامج والمشاريع المفتوحة.

كما أكد الخطاب على ضرورة تعزيز فعالية الدبلوماسية الحزبية والبرلمانية، داعياً إلى المزيد من الاجتهاد والتعاون والتكامل مع الدبلوماسية الرسمية لخدمة القضايا العليا للبلاد.

وتناول الخطاب مسألة حيوية تتعلق بـ “تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات” والقوانين والقرارات التي تتخذها السلطات العمومية، لا سيما تلك التي تهم حقوق وحريات المواطنين بصفة مباشرة. هذه المسألة، حسب الخطاب، ليست مسؤولية الحكومة وحدها، بل هي مسؤولية الجميع، وفي مقدمتهم البرلمانيون (لكونهم يمثلون المواطنين)، بالإضافة إلى الأحزاب السياسية، والمنتخبين، ووسائل الإعلام، وفعاليات المجتمع المدني.

العدالة المجالية: من الأولوية إلى الرهان المصيري

يؤكد الخطاب أن التوجيهات المتعلقة بتسريع مسيرة “المغرب الصاعد” وإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية، هي قضايا كبرى “تتجاوز الزمن الحكومي والبرلماني”. الهدف المعلن هو تحقيق عدالة اجتماعية ومجالية أكبر، وضمان استفادة الجميع من ثمار النمو وتكافؤ الفرص بين أبناء المغرب الموحد.

وفي هذا السياق، يعتبر الخطاب أن محاربة الفوارق المجالية “ليست مجرد شعار” أو أولوية مرحلية قد تتراجع أهميتها حسب الظروف، بل هي “توجه استراتيجي” يجب على جميع الفاعلين الالتزام به و “رهان مصيري” ينبغي أن يحكم مختلف السياسات التنموية.

ولتحقيق هذا التحول، اعتبر الخطاب أن مستوى التنمية المحلية هو “المرآة التي تعكس بصدق مدى تقدم المغرب الصاعد والمتضامن”.

ثقافة النتائج وضبط الأولويات التنموية

أشار الخطاب بوضوح إلى أن التحول الكبير الذي يسعى المغرب لتحقيقه على مستوى التنمية الترابية يتطلب “تغييراً ملموساً في العقليات وفي طريقة العمل”، مع ترسيخ حقيقي لـ “ثقافة النتائج”. ويجب أن يُبنى هذا العمل على معطيات ميدانية دقيقة وبالاعتماد على التكنولوجيا الرقمية.

وفي إطار الدعوة إلى “الجدية”، شدد الخطاب على ضرورة محاربة كل الممارسات التي “تضيع الوقت والجهد والإمكانات”، معتبراً أنه “من غير المقبول التهاون في نجاعة ومردودية الاستثمار العمومي”.

وأُمرت الحكومة بتسريع وتيرة وإثارة أثر أقوى للجيل الجديد من برامج التنمية الترابية، ضمن “علاقات رابح رابح بين المجالات الحضرية والقروية”. وقد حددت الأولويات الرئيسية ذات الأسبقية في: تشجيع المبادرات المحلية والأنشطة الاقتصادية، وتوفير فرص الشغل للشباب، والنهوض بقطاعات التعليم والصحة، بالإضافة إلى التأهيل الترابي.

خارطة طريق المناطق الهشة والسواحل والمراكز القروية

أضاف الخطاب توجيهات محددة للتركيز عليها، تركز بشكل خاص على المناطق التي تعاني من هشاشة جغرافية أو بيئية:

1. العناية بالمناطق الهشة (الجبال والواحات): دعا الخطاب إلى إعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة، وخاصة مناطق الجبال والواحات، بما يراعي خصوصيتها وطبيعة حاجياتها. وأكد على ضرورة إعادة النظر في تنمية المناطق الجبلية (التي تغطي 30% من التراب الوطني) وتمكينها من سياسة عمومية مندمجة تراعي خصوصيتها ومؤهلاتها الكبيرة. وشدد على أن تحقيق التنمية الترابية المنسجمة يتطلب “تكاملاً وتضامناً فعلياً” بين المناطق والجهات.

2. التنمية المستدامة للسواحل: دعا إلى التفعيل الأمثل والجاد لآليات التنمية المستدامة للسواحل الوطنية، بما في ذلك القانون المتعلق بالساحل والمخطط الوطني للساحل. والهدف هو تحقيق التوازن الضروري بين التنمية المتسارعة ومتطلبات الحماية، وتثمين مؤهلات السواحل ضمن اقتصاد بحري وطني يخلق الثروة وفرص الشغل.

3. توسيع نطاق المراكز القروية: اعتُبر توسيع نطاق المراكز القروية آلية ملائمة لتدبير التوسع الحضري والتخفيف من آثاره السلبية. ومن شأن هذه المراكز الناشئة أن تشكل “حلقة فعالة في تقريب الخدمات” الإدارية والاجتماعية والاقتصادية من المواطنين بالعالم القروي.

ختاماً، وجه الخطاب دعوة صريحة للحكومة والبرلمان (أغلبية ومعارضة) لتعبئة كل الطاقات والإمكانات، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، والتحلي بالنزاهة والالتزام ونكران الذات، ليكونوا في مستوى الأمانة والخدمة التي يتطلبها الوطن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!