الترافع البيئي في المغرب: صراع من أجل الاستدامة وسط تقصير حكومي

الرباط – 15 ماي 2025
في ظل تصاعد التحديات البيئية التي تواجه المغرب، من ندرة المياه إلى تلوث الهواء وتفاقم إشكالية إدارة النفايات، يبرز الترافع البيئي كقوة دافعة لتحقيق الاستدامة وحماية الموارد الطبيعية. لكن تقريرًا حديثًا صادر عن المعهد المغربي لتحليل السياسات في مارس 2025، بعنوان “الترافع البيئي في المغرب: التحديات، الاستراتيجيات والعوائق المؤسساتية“، يكشف عن عوائق هيكلية ومؤسساتية تعيق جهود المجتمع المدني، إلى جانب تقصير حكومي واضح في دعم هذا القطاع الحيوي. من خلال دراسة حالات مثل إدارة النفايات في المدن الكبرى والترويج للطاقات المتجددة، يمكننا فهم عمق هذه التحديات واستشراف سبل التغلب عليها.
تحديات تعيق مسيرة الترافع البيئي
التقرير يكشف عن تحديات هيكلية تعيق الترافع البيئي و تحد من فعاليته في المغرب ، أبرزها ضعف الحوكمة ونقص الموارد. فآليات الحوكمة القائمة تعاني من فجوات كبيرة، حيث يفتقر المجتمع المدني إلى الشفافية في الوصول إلى البيانات البيئية، مما يعيق بناء استراتيجيات ترافع مبنية على الأدلة. فعلى الرغم من وجود قانون الحق في الحصول على المعلومات (31-13)، تبقى البيانات مبعثرة وغير متاحة في منصة رقمية موحدة، وهو ما يفاقم صعوبة عمل المنظمات البيئية.
كما يعاني المجتمع المدني من نقص حاد في الموارد المالية والبشرية، حيث أظهرت دراسة استقصائية أن 60% من المنظمات البيئية تواجه عقبات تمويلية تحول دون تنفيذ أنشطتها. هذا النقص يحد من القدرات اللوجستية والفنية، ويضعف إمكانية بناء شراكات مستدامة أو التأثير في السياسات العامة.
إضافة إلى ذلك، يشير التقرير إلى تقلص الفضاء المدني، حيث يواجه 44% من النشطاء قيودًا على حرية التعبير وتكوين الجمعيات، مما يعرقل جهود الترافع ويحد من تأثيرها.
إدارة النفايات: أزمة مستمرة في المدن الكبرى
تُعد إدارة النفايات إحدى القضايا البيئية الملحة في المغرب، خاصة في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط. يواجه المغرب تحديات كبيرة في معالجة النفايات الصلبة، حيث تتراكم النفايات في مكبات غير صحية، مما يؤدي إلى تلوث التربة والمياه الجوفية وانبعاث غازات الدفيئة.
منظمات المجتمع المدني، مثل جمعيات محلية في الدار البيضاء، تنشط في التوعية بإعادة التدوير وتقليل النفايات، لكن جهودها تصطدم بنقص الموارد المالية والبنية التحتية. فبحسب التقرير، يعاني 60% من هذه المنظمات من عقبات تمويلية تعيق توسيع نطاق أنشطتها، مما يحد من تأثيرها في مواجهة أزمة النفايات.
على سبيل المثال، تُظهر مبادرات مثل “حملات تنظيف الأحياء” في المدن الكبرى، التي تقودها منظمات شبابية، إمكانيات كبيرة لتغيير السلوكيات المجتمعية. لكن غياب الدعم الحكومي، سواء من خلال توفير مرافق إعادة تدوير متطورة أو برامج تدريبية، يجعل هذه الجهود متقطعة وغير مستدامة.
كما أن ضعف التنسيق بين السلطات المحلية والمجتمع المدني يفاقم المشكلة، حيث تظل خطط إدارة النفايات بعيدة عن التطبيق الفعال.
الطاقات المتجددة: طموحات كبيرة وتنفيذ بطيء
يُعتبر قطاع الطاقات المتجددة مجالًا آخر يبرز فيه الترافع البيئي. المغرب حقق تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال، خاصة من خلال مشاريع مثل محطة “نور” للطاقة الشمسية في ورزازات. لكن التقرير يشير إلى أن الترافع البيئي لتوسيع نطاق الطاقات المتجددة يواجه تحديات مؤسساتية، مثل ضعف الشفافية في البيانات المتعلقة بالمشاريع ومحدودية مشاركة المجتمع المدني في صنع القرار. منظمات مثل “ائتلاف الطاقة النظيفة” تسعى للضغط من أجل سياسات تدعم الطاقة المتجددة في المناطق الريفية، لكنها تصطدم بقيود تمويلية وبيروقراطية.
على سبيل المثال، في مناطق مثل الأطلس المتوسط، حيث تتوفر إمكانيات كبيرة للطاقة الريحية والشمسية، تعاني المبادرات المحلية من غياب الدعم اللوجستي والفني. هذا الوضع يحد من قدرة المجتمعات المحلية على الاستفادة من الطاقة النظيفة، رغم الخطاب الحكومي الطموح حول تحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050. التقرير يكشف أن 44% من النشطاء يواجهون قيودًا على حرية التعبير وتنظيم الفعاليات، مما يعيق جهود الترافع لتسريع وتيرة التحول نحو الطاقة المتجددة.
فكيك: رمز الصمود والتحدي
تُعد واحة فكيك نموذجًا حيًا للتحديات البيئية والاجتماعية التي تواجهها المناطق النائية في المغرب. فهذه الواحة التاريخية، التي تعاني من ندرة المياه وتدهور الأراضي، تواجه ضغوطًا جيوسياسية ومناخية تهدد استدامتها. “حركة المياه“، التي تقودها نساء فكيك، تُظهر صمودًا مجتمعيًا لافتًا، حيث تسعى للحفاظ على الحقوق العرفية في إدارة الموارد المائية في مواجهة القانون 36.15، الذي يُنظر إليه كتهديد للنسيج الاجتماعي والاقتصادي للواحة. وبدعم 92% من السكان المحليين، تُبرز هذه الحركة إمكانيات الترافع المحلي، لكنها تصطدم بتحديات قانونية وبيروقراطية تعيق استمراريتها.
جهود المجتمع المدني: خطوات واعدة تحتاج إلى دعم
رغم هذه العوائق، يواصل المجتمع المدني دوره المحوري في الترافع البيئي من خلال مبادرات متنوعة تشمل التوعية بإدارة النفايات، الترويج للطاقات المتجددة، وبناء تحالفات محلية ودولية. استراتيجيات مثل الاستفادة من الأطر القانونية، كقانون المشاركة العامة، وحملات التحسيس، تُظهر محاولات لسد الفجوة مع المؤسسات العمومية. كما يُعد التعاون مع شركاء دوليين، مثل مركز البحوث للتنمية الدولية، خطوة إيجابية لدعم الأبحاث البيئية.
ومع ذلك، تبقى هذه الجهود محدودة بسبب التجزئة بين المنظمات وضعف التنسيق الداخلي، مما يقلل من تأثيرها الجماعي. التقرير يقترح توصيات طموحة، مثل إنشاء منصة مركزية للبيانات البيئية، تعزيز قدرات المنظمات، وتمكين النساء والشباب، لكن تنفيذ هذه التوصيات يتطلب التزامًا حكوميًا جادًا.
انتقادات موجهة للحكومة المغربية
على الرغم من إطلاق الحكومة المغربية استراتيجيات وطنية للتنمية المستدامة، إلا أن التقرير يكشف عن تقصير واضح في عدة مجالات:
- غياب الشفافية: فشلت الحكومة في تفعيل قانون الحق في الحصول على المعلومات بشكل يضمن نشرًا استباقيًا للبيانات البيئية، مما يعكس ضعف الالتزام بالحوكمة الشفافة.
- تقييد الفضاء المدني: القيود على حرية تكوين الجمعيات والتجمعات تناقض الخطاب الرسمي حول دعم المجتمع المدني، مما يحد من قدرة النشطاء على العمل بحرية.
- إهمال المناطق الهامشية: حالة فكيك تُبرز غياب سياسات مراعية للخصوصيات المحلية، حيث يُطبق القانون 36.15 دون دراسة كافية لتأثيراته على المجتمعات المحلية.
- نقص الدعم المالي: الحكومة لم توفر آليات تمويل مستدامة للمنظمات البيئية، مما يجبرها على الاعتماد على تمويل خارجي يهدد استقلاليتها.
- مشاركة شكلية: الإطار القانوني للمشاركة العامة يعاني من تعقيدات بيروقراطية تجعل أدوات مثل العرائض غير فعالة، مما يقلل من تأثير المجتمع المدني.
حلول مقترحة لمستقبل أكثر استدامة
لتحسين مشهد الترافع البيئي، يحتاج المغرب إلى إصلاحات عاجلة تشمل:
- مراجعة القوانين: تعديل القانون 36.15 ليتماشى مع الواقع المحلي، مع ضمان تطبيقه بمرونة تحترم الحقوق العرفية.
- منصة بيانات موحدة: إنشاء منصة رقمية مركزية للبيانات البيئية لتسهيل الوصول إلى المعلومات.
- دعم مالي وفني: تخصيص تمويلات حكومية للمنظمات البيئية، مع تقديم تكوينات لتعزيز قدراتها.
- تعزيز الفضاء المدني: تخفيف القيود على النشاط المدني لضمان مشاركة أوسع وأكثر فعالية.
- تمكين الفئات المهمشة: دعم النساء والشباب في المناطق النائية، مثل فكيك، من خلال برامج تدريب وتمويل مخصصة.
الترافع البيئي في المغرب يُمثل صوت المستقبل في مواجهة تحديات بيئية متفاقمة. مبادرات مثل “حركة المياه” في فكيك تُظهر إمكانيات هائلة للتغيير، لكنها بحاجة إلى دعم حكومي حقيقي لتحقيق استدامتها. على الحكومة المغربية أن تتجاوز الخطابات النظرية وتتحرك نحو تعزيز الحوكمة، تمكين المجتمع المدني، ومعالجة القضايا البيئية بجدية. فالاستدامة ليست رفاهية، بل ضرورة ملحة لضمان مستقبل مزدهر للأجيال القادمة.