إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة: بين الحرية والتحكم

في سياق نقاش ساخن نظمته مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، تجمّع نخبة من الصحفيين والمفكرين المغاربة لمناقشة مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، وهو مشروع أثار جدلاً واسعاً وقلقاً عميقاً حول مستقبل حرية الصحافة في المغرب. المتدخلون، بمن فيهم محمد الأشعري، رشيد البلغيتي، توفيق بوعشرين، وآخرون، أجمعوا على أن هذا القانون لا يهدف إلى تعزيز الاستقلالية المهنية، بل يشكل محاولة واضحة لتكريس السيطرة على الإعلام وتقييد حرية التعبير، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى نقاش عام حقيقي مع اقتراب المواعيد الانتخابية.
تحول من التحرير إلى التحكم
أكد محمد الأشعري أن تشريع الحريات يعكس العلاقة الحقيقية بين السلطة والمجتمع، مشيراً إلى أن مشروع القانون يثير القلق حول مساحات الحرية وحق النقد والبحث عن الحقيقة. وأضاف أن السياق الحالي، المطبوع بتراجع الصحافة التقليدية وتنامي شبكات التواصل الاجتماعي، يجعل هذا التشريع مؤشراً على توجه تحكمي يهدد المستقبل الديمقراطي. وفي السياق ذاته، لاحظ علي بوعبيد أن المغرب تحول من نهج تحرري في التسعينيات إلى منطق السيطرة اليوم، حيث أصبح “التنظيم الذاتي” للمجلس الوطني للصحافة أداة للوصاية غير المباشرة.
غياب الشفافية وتدخل رأس المال
انتقد رشيد البلغيتي منهجية الحكومة في تمرير القانون دون استشارة حقيقية للصحفيين والناشرين، واصفاً إياه بـ”هندسة سياسية ناعمة” تهدف إلى التحكم في الهيئات المستقلة. وأشار إلى أن القانون يعزز “الريع الإعلامي” من خلال ربط تمثيل الناشرين بمعايير مالية، مما يقصي المقاولات الإعلامية الصغيرة ذات المحتوى النقدي ويعزز نفوذ الناشرين الكبار الممولين من الدولة. بدوره، لفت توفيق بوعشرين إلى أن الصحافة أصبحت “ترمومتر” يقيس مدى الديمقراطية، محذراً من تأثير رأس المال السياسي والاقتصادي على الخط التحريري، وتحول الصحافة إلى أداة دعاية وتشهير بدلاً من مراقبة السلطة.
القانون الجنائي كأداة ردع
أجمع المتدخلون على أن اللجوء المتكرر إلى القانون الجنائي لملاحقة الصحفيين يشكل تهديداً خطيراً لحرية التعبير. وروى بوعشرين تجربته الشخصية حيث تمت متابعته قضائياً بناءً على خبر صحيح، مما يكشف عن استهداف الأصوات الناقدة. من جهته، وصف عبد العلي حمي الدين هذا الواقع بـ”الخلل الكبير”، مؤكداً أن الصحافة الحرة ضرورية لكشف الاختلالات وعقلنة مطالب المواطنين. كما أشار المعطي منجب إلى وجود “هندسة للرأي العام” تستهدف حتى الصحافة الأجنبية، عبر فرض مواضيع محددة أو طرد الصحفيين الناقدين.
دور المواطن والأوليغارشيا المالية
أكد المتدخلون أن حرية الصحافة ليست قضية مهنية فحسب، بل حق أساسي للمواطن في الوصول إلى المعلومة الصحيحة. وشدد علي بوعبيد على أهمية شفافية تمويل الإعلام لتمكين القارئ من معرفة من يقف وراء الخط التحريري. فيما رأت لطيفة البوحسيني أن المغرب يواجه “أوليغارشيا مالية” ذات ارتباطات دولية تتحكم في القرار السياسي والإعلامي، معتبرة أن القانون جزء من هذا المسار التحكمي. وأضافت أن التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع يعكس تراجعاً خطيراً في الحريات منذ دستور 2011.
نقاش حول الدستور
اختلف المتدخلون حول دور الدستور في هذا السياق. فعبد الحميد عقار رأى أن نص الدستور، الذي يربط تنظيم الحريات بالقوانين، يفتح الباب للتقييد، داعياً إلى إعادة صياغته. في المقابل، رفضت لطيفة البوحسيني هذا الطرح، مؤكدة أن المشكلة تكمن في عدم احترام روح الدستور، وليس في نصوصه.
دعوة إلى اليقظة والنضال
في ختام النقاش، دعا المتدخلون إلى مواصلة الحوار النقدي و”إيقاظ الضمائر” لمواجهة هذا التراجع الخطير في الحريات. وحذر الأشعاري من أن هذا التشريع يعكس توجهات تحكمية تهدد مستقبل البلاد، بينما دعا البلغيتي إلى حوار وطني شفاف وانتخابات نزيهة لتنظيم القطاع. وأكد بوعشرين ضرورة مراقبة السلطة باسم الصحافة، فيما دعا حمي الدين إلى دق ناقوس الخطر لإنقاذ حرية التعبير.
خلاصة
يعكس مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة تحولاً مقلقاً من نهج تحرري إلى سياسة تحكمية تهدف إلى تكبيل الصحافة وتدجينها عبر آليات القانون والمال. هذا الوضع لا يهدد المهنة فحسب، بل يقوّض أسس الديمقراطية وحق المواطن في المعلومة. ومع اقتراب الانتخابات، يصبح النضال من أجل صحافة حرة ومستقلة أكثر إلحاحاً لضمان فضاء عام يتسع للنقاش الحر والمسؤول.