أنياب «الهاتف المحمول» تحول مآسي البعض إلى حفلات مشاهدة لدى آخرين

عبد العزيز المنيعي

أعادت تدوينة الفنان إدريس الروخ، التي نشرها على صفحته في الفيسبوك، إلى الذاكرة لحظة محاكمة شخص في اوروبا، قام بتصوير شخص اخر وهو يغرق بسيارته في مياه نهر غاضب. المحاكمة تمت على أساس عدم تقديم المساعدة لشخص يحتاج إليها. وهو ما ورد في تدوينة الروخ الذي قال، “هناك أناس عندما تقع الكوارث اصبحوا متفرجين ولم يقوموا باي نوع من المحاولة لإنقاذ اَي فرد باي طريقة كانت …كان همهم اخد صور وفيديوهات …وهذا شيء مقرف”.

الحقيقة أن هذا السلوك ليس مقرفا، لأنه فعل محزن جدا، عندما يفضل الواحد منا أن يوثق المأساة بهاتفه، ويحولها إلى حفلة مشاهدة، بدل أن يحاول ولو مجرد محاولة لفعل شيء يدل على أنه مهتم.

فلم يعد مقبولا أبدا هذا الكم الهائل والمغرق من البشاعة التي تحاصرنا في الواقع والافتراض. لم يعد ممكنا التعايش مع النيات المخدومة لتحويل يومياتنا إلى حلبة مصارعة وشاشة بلازما نشاهد عليها مقاطع فيديو المنتحرين و القتلة ومشاهد أخرى للمغتصبين وصولات المتحرشين والمرضى الذين لا يعرفون انهم مرضى.

لم يعد مقبولا مطلقا، أن تتحول لحظة مؤلمة يعيش تفاصيلها إنسان آخر إلى حفلة مشاهدة من اجل الحصول على الكثير من اللايكات و المشاهدات.

لم يعد مقبولا مطلقا أن نشاهد تحول قيم المجتمع، المتسامحة والمنفتحة، إلى صورة انياب بارزة تلتهم كل ما هو بشع وتتلذذ به كما لو كان وجبة دسمة في مأدبة فاخرة. 

كل يوم علينا التفكير في توجيه أصابع الاتهام إلى أنفسنا نحن كمجتمع. علينا أن نواجه حقيقتنا، التي تؤكد اننا لم نقم بواجبنا نحو هؤلاء الفتية الصغار الذين كبروا بين أحضان التكنولوجيا ولم يجدوا من يوجههم حسن التوجيه. وربما المسألة أكبر من ذلك، فنحن من لم نهيئ لهم أرضية صلبة يقفون عليها ولا تسقطهم الموجات التكنولوجية العاتية. 

نحن من لم نستطع أن نحصنهم من كاميرا الهاتف النقال وكاميرا السكايب ومواقع الدردشة. لم نوفر لهم الزاد الذي يكفيهم لتحمل هذا الطريق الطويل. لذلك ليس من الممكن اليوم أن نلوم هؤلاء الفتية، على نشر فيديو إنتحار بشع، والإقتراب من جثة تحت عجلات شاحنة، أو محاورة طفل مغتصب والتشهير به. لا مجال للومهم فهم نتاج مرحلتهم، التي لم نعيها جيدا و لم نتمكن حتى من اللحاق بها. لتصير المسافة أطول بين الأبناء والاباء. مسافة بحجم الكارثة، بحجم العجز عن مواكبة متطلباتهم ورغباتهم وأحلامهم.

في كل يوم كثيرون يريدون مغادرة مواقع التواصل الإجتماعي، وهم في عمر الآباء طبعا. لكن الخطأ يبدأ من هنا، من الانسحاب ودفن الرأس في الرمل. بمعنى أصح الهروب من معركة التكنولوجيا. هنا الخطأ الذي يجب أن يتجنبه الآباء، على الكل المشاركة والتوجيه والكشف عن مكامن الخلل لعلنا نستطيع شيئا أمام هذا الغول الجائع.

لكن الطامة الكبرى أن يكون بعض الآباء بدورهم أبطال رقميون. يغلقون على أنفسهم في غرف الدردشة، ويوصدون عليهم الأبواب ويعيشون لحظتهم السابقة بأثر مستقبلي. التكنولوجيا تمحي الشيب وتنفي الزمن وتعيد الملامح كما لو كانت عند الولادة. هي الخدعة الكبرى التي لم نهيأ لها نحن، فكيف لنا أن نهيئ لها الأبناء.

فقط كفوا عن اعتبار البشاعة مسالة عادية، وصورا من اليومي لا أقل و لا أكثر. لأن التطبيع مع البشاعة سيحولنا إلى وحوش في ثوب بشر..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى